في الذكرى الخمسين لجريمة إحراق الأقصى
المستشار رشيد موعد
تصادف اليوم، 21 آب، الذكرى 50 لإحراق المسجد الأقصى، حيث استفاق أهالي القدس على أصوات الاستغاثة، حين أقدم المجرم مايكل دينيس روهان، وهو أسترالي الجنسية بحرق محتوياته، وقد أتت النار على منبره الخشبي القديم المتميّز الذي صنع في مدينة حلب السورية، وأهداه القائد صلاح الدين الأيوبي إلى القدس، كما أتت النيران على مسجد الخليفة عمر بن الخطاب، ومحراب زكريا، وأحدثت ضرراً كبيراً في بناء المسجد، وسقط سقفه على الأرض، واحترق السجاد بأكمله.
بعد توقيف المجرم روهان، قامت المحاكم الصهيونية المختصة بتبرئة ساحته مما نسب إليه، معللة ذلك بفقدانه الأهلية، ثم أطلقت سراحه، وأثناء توقيفه والتحقيق الأولي معه، اعترف بأن ما قام به كان إيحاءً لنبوءة جاءت في سفر زكريا، مؤكداً “أن ما فعله واجب ديني كان ينبغي عليه فعله”.
وبعد حرق المسجد الأقصى، قالت غولدا مائير، وكانت آنذاك رئيسة الوزراء لهذا الكيان: “لقد حزنت وفرحت.. حزنت لأنني توقعت أن “إسرائيل” ستزول من الوجود وتحرق، أي أن العرب والمسلمين سينتقمون ويحرقون “إسرائيل”، وفرحت لأن ذلك لم يحدث، بل الذي جرى هو الشجب والإدانة والاستنكار من العرب والمسلمين، ومن العالم أيضاً، وهذا لا يخيفنا، فعرفت أن “إسرائيل” باقية، وهذا سر فرحتي”. وكان سبقها قبل ذلك تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية حين قال، في أول مؤتمر صهيوني عام 1897 في بازل: “إذا قدّر لنا، وأخذنا القدس، فسوف أمحو وأزيل كل أثر لا يمت إلى الصهيونية بصلة”.
جريمة إحراق المسجد الأقصى تمّت في سياق الاعتداءات الإسرائيلية المخطط لها على الأماكن المقدسة في مدينة القدس، فقد دأبت سلطات الاحتلال بشكل مستمر على التعرّض لحرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية، والاعتداء المتكرر عليها، بهدف تنفيذ مخططاتها الرامية إلى تغيير طابع القدس، وطمس معالمها الإسلامية والمسيحية، سعياً لتهويد تلك المدينة المقدسة. إذاً لم تكن جريمة الإحراق حدثاً عابراً، بل كانت خطوة على الطريق تهدف إلى إعادة بناء “الهيكل اليهودي” المزعوم مكان المسجد الأقصى، بعد إزالته، رغم كل المواثيق الدولية التي تمنع المساس بالمقدسات والآثار.
في العام 1948 اعتدى الصهاينة على المسجد الأقصى، ووجهت المدفعية قذائفها صوب المسجد، وأصابت القذائف قبة الصخرة، وقتلت عدداً من المصلين بداخلها، كما نتج على استمرار القصف حدوث حريق كبير فيه، وكذلك في حرب حزيران 1967 اعتدى الصهاينة على المسجد الأقصى، واستباحوا قدسيته، وقتلوا العديد من الأبرياء، وأقاموا صلواتهم داخل الحرم، ثم تتابعت اعتداءاتهم بحجة الكشف عن التاريخ اليهودي وهيكل سليمان المزعوم، وأخذت السلطات الصهيونية تقوم بالحفر في أماكن متعددة في الأحياء العربية المصادرة داخل السور بعمق 10 أمتار، كما تسعى لوضع يدها على مساحات واسعة ملاصقة للحرم لجعلها متنزهات للمستوطنين.
يقول الدكتور محمد عمارة المفكر والمؤرخ المصري: “مدينة القدس بناها الكنعانيون، وهم عرب أجداد الشعب العربي الفلسطيني في الألف الرابع قبل الميلاد، أي قبل ظهور الديانة اليهودية بثلاثة قرون، فأين هي علاقة القدس بالديانة اليهودية التي لم تكن قد وجدت بعد؟!”.
القائد البطل صلاح الدين الأيوبي – في ليلة مظلمة – وقف يناجي ربه ويقول: “يارب إني أستحي أن أنظر إلى وجهك الكريم والقدس ترزح تحت الاحتلال، ولن يهدأ لي بال حتى أحررها”، وكان له ذلك عام 1187 ميلادية.
وتألمت الشاعرة نازك الملائكة وهي تقول: “أعجب من العربي كيف يبتسم والقدس محتلة من الصهاينة”، وقد سبقها في ذلك الأديب الراحل غسان كنفاني، حيث قال: “إذا فشل المدافعون عن القضية، فيجب أن نغيّر المدافعين، لا أن نغيّر القضية”.
القدس، هي لفلسطين، وفلسطين هي الشام، والشام هي العروبة، فالقدس هي رمز للتآخي الإسلامي المسيحي الذي جسّدته العهدة العمرية التي رعاها كل من الخليفة عمر بن الخطاب وبطريرك القدس الدمشقي الأصل صفرونيوس، حيث كتبها بخط يده الصحابي أبيَّ بن كعب، وشهد عليها كل من خالد بن الوليد وعمر بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك عام 15هجرية الموافق 668 ميلادية.
في الشهر الثامن من العام 2012، وفي إجراء عنصري لطمس المعالم العربية والإسلامية للمدينة، أصدرت بلدية الاحتلال قراراً يقضي بتحويل باحات المسجد الأقصى التاريخية إلى متنزهات وحدائق عامة، يحق لأي شخص دخولها للاسترخاء والاستمتاع، وهدف هذا القرار إلى إلغاء تبعية تلك الباحات للمسجد الأقصى، وطمس المعالم العربية الفلسطينية في المدينة المقدسة، ولم تكن هذه الخطوة “مستغربة” على كيان عنصري غاصب يواصل عدوانه كل يوم على الشعب العربي الفلسطيني، وانتهاك حرمات مقدساته العربية الإسلامية والمسيحية.