خان شيخون.. انتصار “كامل” و”نظيف”
لأن الكتابة عن خان شيخون في غاية التعقيد، كما هي في غاية البساطة، فإن المعركة لم تأخذ حقها من التغطية الإعلامية الواسعة والشاملة والعميقة والمتعدّدة الجوانب، على عظمتها وبهائها وملحميتها. لقد كرّرت معارك الشمال الغربي من حماة، والجنوب الشرقي من إدلب، ما هو مألوف ومنتظر ومتوقّع بالتأكيد، لكنها سجّلت المفاجأة والإبهار، بل والصدمة! فقد أعادت سيناريو تحرير مدينة حلب عندما أنجزت عملية التفافية واسعة واخترقت صفوف و”دفاعات” الجيوش الإرهابية من القلب والمنتصف لعزلها وتقطيع أوصالها وتشتيت قواها وقطع إمداداتها، ولكنها حافظت على تطوّر “ممسوك” بكل قوة على صعيد إيقاع العمليات القتالية، بحيث كان التوازي بين المسار العملياتي من جهة، والمسار الأمني السياسي من جهة أخرى، يشق طريقه على غاية من التناغم والتنسيق والسلاسة، ويكاد يسير على حافة شعرة متناهية الدقة..
كانت معركة هجومية وخاطفة وصاعقة أنجزت استحقاقاً مهماً بتحرير مدينة استراتيجية من سيطرة الإرهابيين المحليين والدوليين خلال سرعة قياسية، ولكنها حرّرت أيضاً، وبالتوازي، اتفاق سوتشي من القراءات الأردوغانية الأحادية الجانب، ومن محاولات أردوغان اللعب بنيران الورقة الضامنة..
هناك أيضاً لعبة حافة الهاوية، التي برع بها الجيش العربي السوري أيما براعة حينما بعث برسالة على غاية من الرؤية والاستشراف الاستراتيجيين، واستطاع من خلالها إحباط الرهانات الأردوغانية المجنونة على صدام عسكري سوري تركي مباشر يعيد خلط الأوراق ويطيح بكل التفاهمات التي جرى الاتفاق عليها في أستانا، ويجر تركيا، بموالاتها ومعارضتها، إلى أتون موجة جديدة من الشوفينية المدمّرة. لقد تمكّنت الإدارة السورية للصراع من لجم “الاندفاعة” الأردوغانية، وثبتتها حيث ينبغي لها أن تُثبّت وتتوقّف دون أدنى خطوة إضافية، لتنقذ الوحدات التركية، التي زج بها أروغان الجريح في فورة إحباطاته الجديدة، من مواجهة معروفة النتائج سلفاً، إذ رفض الجيش العربي السوري الانزلاق إلى مواجهة عسكرية كان من الواضح أن هناك من يمني النفس بإشعالها بينه وبين جيش صديق لدولة جارة، مراهناً في ذلك على حقيقة أن القوات المسلحة التركية تمر اليوم في “المطهر الأردوغاني”، وأنها تخضع لعمليات ملاحقات وتصفيات قاسية وخطيرة، وأنها ضحية، لكنها لاتزال تملك ما تبقى من مناقبية سوف تمكّنها أخيراً من طرح أسئلة الولاء والتبعية، والانتفاض في وجه “الأخونة” المنهجية التي تتعرّض لها.
بقدر ما كان التكتيك المتّبع لطرد الإرهابيين من ريف حماة الشمالي، ومن خان شيخون ومحيطها، وضمان أمن الطريق الدولية الواصلة بين حماة وحلب (M5)، تكتيكاً مبدعاً وخلاقاً، ويرقى بحق إلى أن يكون درساً في عبقرية التخطيط والشرف العسكري، بقدر ما بدا الموقف الأردوغاني أمياً وقبلياً ومتخلّفاً ولا مسؤولاً، ويكاد يشبه “الفزعة” البدائية في مواجهة نظامية بين جيوش حديثة. ولعل أقل ما يقال بهذا الصدد: إن الرئيس القادم من صفوف العدالة والتنمية التركي كاد أن يضع قواته في واحدة من فوهات جهنم قبل أن يتدارك السوريون والروس – على الأقل – إنقاذ كرامة العسكرية التركية أولاً، والحفاظ على البلدين من صراع مجاني يفترض أن لا أساس له في الأجندة الوطنية لكل منهما، وهو صراع سوف ينتهي حتماً مع انتهاء الأردوغانية السياسية وخروج الدكتاتور الإخواني من الحلبة السياسية.
سوف يجري الحديث كثيراً عن الانتصار “الكامل” و”النظيف” الذي عبّر عن رجولة بواسل جيشنا العربي السوري ومناقبيته الرفيعة وقدرته على حسم المعركة في أصعب الظروف وأشدها حساسية وتعقيداً، وسوف تمثل معركة خان شيخون دوماً كأسطورة للانتصار الواثق والهادئ والصميمي الذي يدرك أنه يجدد صناعة الحقائق التاريخية تماماً كما هو جدير بالائتمان عليها.. وها نحن نستظهر دروساً جديدة قديمة: سورية ستتحرّر من براثن الإرهاب كاملة، وهي عائدة إلى النقطة التي انطلقت منها المؤامرة القذرة بكل تشعباتها لكي تعيد تثبيت الأولويات التي سارت على ضوئها سياساتها طوال الخمسين سنة الماضية.. فما انتصر هو الثوابت الاستراتيجية والأخلاقية الحضارية السورية، وبُعد نظر القيادة السورية أيضاً، ومن يحاول أن يعيش على وعي السوريين، لتفوّقهم الأخلاقي والحضاري، ما عليه إلا أن يستمر بلعق الجراح ويتجرع الإهانة تلو الإهانة.. هذا إن بقي لديه شيء من الكرامة الشخصية والسياسية!!
بسام هاشم