جلجامش..!
حسن حميد
أكاد أجزم أن المرء يحتاج، وهو يقرأ ملحمة جلجامش، إلى حواس جديدة، وعقل جديد أيضاً ليقف عند ما فيها من المعاني، والرموز، والدلالات، والغايات.. فهي ليست حكاية، ولا قصة، ولا رواية تاريخية، كما أنها ليست مثل /الشهنامة/ تروي لنا سير الملوك، ولا هي مثل الإلياذة تروي لنا سيرة الحرب، كما أنها ليست مثل أساطير الفراعنة، والهنود، والصينيين التي استغرقتها العادات والتقاليد، إنها ملحمة فريدة تحتاج، على الرغم من أنها وجيزة، إلى ذهن صاف ليعبَّ ما فيها من أبعاد فلسفية قائمة على التضاد بين ثنائيات الحياة الكثيرة.
ولكي أمدّ هذا السطر الطويل حول ملحمة جلجامش، لابدّ لي من القول إن هذه الملحمة هي المدونة العالمية الأولى التي عنيت بنص أدبي يتحدث عن الواقع بلغة الخيال، وتداخل ما هو عياني بما هو غيبي، وما هو دانٍ بما هو قصي، وما هو شعبي/عام، بما هو ملوكي/ خاص، وما هو عاطفي بما هو عقلي، وما هو إنساني، محدود القدرات، بما هو إلهي، كلي القدرات.
ليست ملاحم الفراعنة التي تحدثت عن عصر الأهرامات والتحنيط والموت والحياة الأخرى أقدم من ملحمة جلجامش، بل هي سابقة عليها بنحو خمسة قرون، وليست ملاحم إيران /الافستاـ الابستاق/ أقدم من ملحمة جلجامش، ولا ملاحم الهند /الراج ـ فيدا/ أقدم من ملحمة جلجامش لأنها دونت في النصف الأول قبل الميلاد، ولا ملحمتا الإغريق، الإلياذة والأوديسة، أقدم من ملحمة جلجامش لأن بينهما زمناً يقدر بألف وخمسمائة سنة، وكل هذه الملاحم تعرضت إلى المحاككة والتبديل والمغايرة والمضايفات على أيدي من عمل عليها، سواء في التدوين من قبل أهلها، أو في أثناء الترجمة، حين قام المترجمون بترجمة أجزاء وترك أجزاء، أو في أعمال التدريس في الجامعات حين خضعت هذه الملاحم إلى ما سمي بـ(المختارات) التي تفاوتت في أهميتها ما بين جامعة وأخرى، مثلما تفاوتت في اختياراتها، فما رأته جامعة على أنه مهم وغني، رأته جامعة أخرى على أنه هامشي ونافل وضحل!
الملحمة الوحيدة التي لم تتعرض إلى الروغان عن المعنى والاختصار والاختزال هي ملحمة جلجامش لأنها كتبت على الألواح الفخارية عبر نسخ متعددة، منها ما حفظ في خزائن الملوك، ومنها ما حفظ في خزائن أهل الجاه والعلم والنفوذ، وقد تمتعت ملحمة جلجامش بميزة، ظنها الكثيرون أنها مثلبة وبؤرة ضعف، وهي أن تكرار الحديث عن الحدث الواحد كان متعدداً، ولهذا فإن العطب الذي أصاب الكثير من الألواح نتيجة الحروب، وسوء الأحوال الجوية، وقلة الحرص، ظلَّ معافى في ألواح أخرى، ولهذا جمعت الألواح، ونسخت عنها ملحمة جلجامش، وعوّضت مواضع العطب في بعض الألواح من بعض الألواح الأخرى.
وملحمة جلجامش ليست كتاب ملوك كما قرَّ في أذهان بعض قرائها، وإنما هي ملحمة حياة لأن تجليات الحياة بكل ما فيها من جمال وقبح، ونبل وخساسة، ونصر وهزيمة، وأحلام وخيبات، وأفراح وأحزان.. رابخة في داخلها، لا بل إن تعددية الأصوات تجاه حدث بعينه، أو خبر في حدوده، تتصادى داخل هذه الملحمة، منذ أربعة آلاف سنة.
ملحمة جلجامش، ملحمة سؤال شغوب يكاد يلخص معاني الحياة التي تمضي رويداً رويداً إلى مرفأ وحيد هو الموت.. وفحواه: ما جدوى الحياة، ما أهميتها إن كانت تمضي رويداً رويداً إلى مرفأ وحيد.. اسمه الموت! إنها الملحمة المرآة، التي تدور حول الناسوت واللاهوت المجسدين في جلجامش، وفيه ثلثان من اللاهوت، وثلث من الناسوت.. ومع ذلك يمضي إلى ذلك المرفأ الوحيد.. الموت! بعدما حاول التعلق بالحياة ولو عبر تماس واهن.. ضعيف معها! إنها رغبة الإنسان في جلو الغد، أي المجهول!
Hasanhamid55@yahoo.com