“اليد السوداء” الأمريكية في هونغ كونغ
لمى عجاج
يعتمد جزء كبير من السياسة الخارجية للولايات المتحدة على فكرة أنها يجب أن تروّج “لسياسة الفوضى”، فهذا النوع من الفوضى يلعب دوراً جوهرياً في الحفاظ على الهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية.
“سياسة الفوضى” هذه ليست مجرد إستراتيجية ضد الدول المتنافسة والمنافسين الإستراتيجيين، إنها أيضاً عرض لهوس الدولة العميقة في إدارة العالم من جانب واحد وحرمان القوى (الناشئة) من وضعها القانوني والقدرة على تحدي سيادة الولايات المتحدة.
إذن ما نشهده في هونغ كونغ ليس مجرد انتفاضة محلية ضد الصين، إنما “سياسة الفوضى” المفتعلة التي تمّ التخطيط لها مسبقاً بهدف زعزعة استقرار المنطقة من أجل إيذاء الصين سياسياً واقتصادياً، والبرهان على ذلك تزامن توقيت الاحتجاجات مع بزوغ فجر تكنولوجيا الجيل الخامس في الصين، وهو اختراع لديه القدرة على السيطرة على العالم وبالتالي تبديد الهيمنة الأمريكية؟!. فهل من المعقول أن يكون هذا التزامن بمحض المصادفة؟!. لم يخيب المتظاهرون في هونغ كونغ آمال مموليهم وخاصةً بعد أن شوهد العديد من المتظاهرين يحملون أعلام الولايات المتحدة وينشدون النشيد الوطني الأمريكي، ويناشدون الكونغرس الأمريكي لتمرير قانون حقوق الإنسان والديمقراطية في هونغ كونغ، بحجة أن هذا القانون سيساعد في تنفيذ الاقتراع العام في هونغ كونغ بحلول عام 2020 ولكنه في حقيقة الأمر سينتهي بأن يصبح أداة في أيدي النخب الأمريكية، مما يسمح لهم بفرض عقوبات على الشخصيات السياسية الصينية بذريعة ارتكابهم انتهاكات مزعومة لحقوق الإنسان.
يستلزم هذا التشريع الخاص من البيت الأبيض إجراء مراجعة سنوية بخصوص تحديد الوضع التجاري الخاص لهونغ كونغ، والذي يسمح بالاعتراف به كإقليم جمركي منفصل عن البر الرئيسي للصين، ومراجعة “الاستقلال الذاتي والحرية” لهونغ كونغ الذي يتآكل من خلال ما تصفه أمريكا “التدخل الصيني”. هذه المزاعم ستمنح الرئيس الأمريكي التفويض في تحديد الأشخاص المسؤولين عن اختطاف بائعي الكتب والصحفيين والمتواطئين في قمع الحريات الأساسية في هونغ كونغ بما في ذلك المتواطئون في تسليم الأفراد، وذلك فيما يختص بممارستهم لحقوق معترف بها دولياً وتسليمهم إلى البر الرئيسي للصين للاحتجاز أو المحاكمة وتجميد أصولهم في الولايات المتحدة ومنعهم من الدخول إلى الولايات المتحدة، وبالتالي إعطاء الرئيس الأمريكي حرية التصرف لفرض عقوبات على معظم الأفراد الذين يشكّلون خطراً أو يتعذّر مراقبتهم. هذا التشريع الذي يندرج تحت خانة التدخل المباشر ليس إلا جزءاً من “أساليب الإرهاب والابتزاز” التي يمارسها المسؤولون الأمريكيون في هونغ كونغ عبر تمويل المتظاهرين ومساعدتهم على تنظيم صفوفهم على أوسع نطاق.
في المقابل، تمارس السلطات الصينية حتى الآن سياسة ضبط النفس حتى بعد أن ارتفعت وتيرة الاحتجاجات، والتي اتخذت طابع الحرب بالوكالة المموّلة من كيانات معادية تسعى إلى إشاعة الفوضى، ذلك لأنها تعلم علم اليقين أن الولايات المتحدة تسعى عمداً إلى حثّها على التحرك ودفعها إلى قمع الاحتجاجات بالقوة، لتقوم هي بدورها بفبركة الأحداث وتضخيمها وتلفيقها كموت بعض المتظاهرين على سبيل المثال مما يتيح لها الفرصة لجذب حلفائها الغربيين /الأوروبيين، وجرّهم إلى المقاطعة الاقتصادية للصين، الأمر الذي من شأنه أن يضرّ بمصلحة الصين، خاصةً وأن عدداً من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا تتمتّع بعلاقات تجارية واستثمارية مزدهرة مع الصين ليس لديها أدنى رغبة في مجاراة الولايات المتحدة في حماسها المفرط لإشاعة الفوضى وزعزعة الاستقرار، وليس لديها الرغبة للقفز في عربة الولايات المتحدة المناهضة للصين كي لا تضطر إلى اتخاذ بعض الإجراءات ضد الصين.
إن الدولة العميقة في الولايات المتحدة حريصة كل الحرص على استخدام أزمة هونغ كونغ لمصلحتها ومعاقبة بكين على الطريقة التي تواصل بها تحدي العقوبات الأمريكية، وعلى وجه الخصوص العقوبات الأمريكية على إيران، وبالنتيجة فإن إشعال الاحتجاجات في هونغ كونغ يخدم مباشرةً المصالح الأمريكية في حربها ضد الصين، ففي حال اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في هونغ كونغ وأصبحت حالة الحرب الأهلية ممكنة سيترتب على ذلك خروج جزء كبير من رأس المال من يد ثالث أكبر أسواق رأس المال في العالم، وبغياب هذا السوق المالي في هونغ كونغ سيتعيّن على الصين العمل بترتيباتها المالية المستقبلية من خلال الدول التي ليس لديها سيطرة سياسية عليها، ما يؤكد على الفكرة السابقة بأن الفوضى في “هونغ كونغ” هي الخطوة التالية بعد الحرب التجارية التي فرضتها الولايات المتحدة على الصين والتي أثرت بعض الشيء على المرونة والقدرة التي تتمتع بها الصين على درء الضغوط الاقتصادية الخارجية.
كما رفض حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وتحديداً الهند واليابان الشريكان الأساسيان في “إستراتيجية المحيط الهادئ الهندية”، الانضمام إلى جهود الولايات المتحدة المناهضة للصين، بل على العكس سعوا في حقيقة الأمر إلى التقارب وهذا ما بدا واضحاً من خلال موقفهما من قضية “هواوي”، فعلى الرغم من الجهود الأمريكية الرامية إلى تجريم الشركة أعلنت الشركة عن زيادة في الإيرادات بنسبة 30٪، وتمّ توقيع 50 عقداً من عقود الجيل الخامس 28 منها في أوروبا حتى الآن في هذا العام.
على ما يبدو أن الخيار الوحيد القابل للتطبيق الذي بقي أمام الولايات المتحدة “للسيطرة” و”الضغط” على الصين هو في زعزعة الاستقرار الذي تمارسه على نحوٍ خطير في هونغ كونغ، وبالتالي إغلاق أبواب الاستثمار الخارجي ورأس المال في “اقتصاد البر الرئيسي الصيني”، فهي تدرك أنها إذا استطاعت أن تتلاعب بالحكم الذاتي لهونغ كونغ فإن ذلك من شأنه أن يشلّ الاقتصاد الصيني فعلياً، خاصةً وأن للولايات المتحدة وجوداً كبيراً في هونغ كونغ، فهناك أكثر من 85000 مواطن أمريكي يعيشون هناك، ونحو 1400 شركة أمريكية تعمل هناك، وبلغ الفائض التجاري للولايات المتحدة في هونغ كونغ عام 2017 نحو 32.6 مليار دولار. وبناءً عليه فإن الغاية المنشودة للولايات المتحدة الأمريكية تكمن في إشاعة الفوضى في الصين، وهذا ما يجعلنا نترقب ونتوقع المزيد من الاحتجاجات العنيفة والمتزايدة في المستقبل القريب، لكنه في المقابل يعتمد بشكلٍ كبير على كيفية إدارة الصين للموقف، خاصةً وأن الروس يدرسون مع الصين إستراتيجية مشتركة لمواجهة الاحتجاجات في هونغ كونغ، وبطبيعة الحال لدى موسكو خبرة أكبر بكثير من خبرة بكين في إدارة ودحر حملات الاحتجاج المموّلة من الخارج، وهي مستعدة للاستفادة من هذه التجربة في مواجهة “اليد السوداء” الأمريكية في هونغ كونغ.