أخبارصحيفة البعث

عروبة سورية: قدرٌ أم خيار؟

 

د. إبراهيم علوش

ليس سراً أن بعض السوريين باتت لديهم ردّة فعل حادة إزاء العروبة خلال السنوات الفائتة لعدة أسباب منها ما عانته سورية من ممارسات إرهابية وأعمال إجرامية ومواقف سياسية رعتها بعض الدول العربية، ولا سيما الخليجية منها..

ومنها شعور بعض السوريين بالمرارة، لأنهم استقبلوا مئات آلاف المواطنين العرب بالترحاب على مدى عقود في بيوتهم وأسواقهم وجامعاتهم ومؤسساتهم ومدنهم، فجاءهم “رد الجميل” بتدفق عشرات آلاف الإرهابيين المسعورين المشحونين بالفكر التكفيري من دول عربية وإسلامية شتى ليقتلوهم ويسبوهم ويدمروا بلدهم..

ومنها شعور بعض السوريين، حتى في صفوف بعض البعثيين، أن حجم الدمار المادي والاجتماعي الهائل الذي لحق بسورية خلال سنوات الحرب يتطلّب تنحية النهج القومي العروبي جانباً، على الأقل في الوقت الحالي، من أجل التركيز على إعادة بناء البشر والحجر في سورية ذاتها..

لا بل هناك من بات يتساءل عما جنته سورية من تبني القضايا العربية سوى الجحود والطعنات في الظهر.

لا يجوز التعميم طبعاً، إنما كذلك لا يجوز دفن الرأس في الرمال والتغاضي عن حقيقة وجود ردة فعل كهذه لدى بعض السوريين إزاء العروبة عموماً، بلا تمييز بين العروبة كهوية حضارية، والعروبة كنهج قومي تتبناه الدولة السورية وحزب البعث العربي الاشتراكي، والعروبة الرسمية كمنظومة تجزئة قُطرية تمثّلها جامعة الدول العربية، والعروبة كشارع أو “رأي عام” عربي لم يرتقِ إلى مستوى الحرب الكونية على سورية (أو غيرها من التحديات القومية المصيرية بالمناسبة من ليبيا إلى اليمن، ناهيك عن فلسطين)، إن لم نقل أن الشارع العربي ككتلة جماهيرية بقي ضائعاً أو غائباً، وهو ما لا ينفي بروز مواقف شعبية عربية عدة لا يمكن إنكارها انحازت لسورية منذ آذار 2011، وبدأت تزداد قوةً وزخماً عام 2013.

العتب مشروع وكبير، بحجم الجرح السوري، لكن مصلحة سورية شعباً ودولةً مركزية، ومصلحة الأمة العربية، تتطلّب التحذير من ردات الفعل التي تقود إلى تبني الأهداف الاستراتيجية لأعداء سورية خصوصاً وأعداء النهج القومي العروبي عموماً، وإلى خلط الصالح بالطالح ورمي الطفل مع مياه الاستحمام.

نقول: إن دفع المواطن السوري إلى التنصّل من هويته العربية، ودفع الدولة السورية إلى التخلي عن النهج القومي العروبي، يعني تجويف النصر السوري الغالي الثمن على الأرض، واختراقه سياسياً وأيديولوجياً بالأهداف التي لم تُشن الحرب على سورية إلا من أجل تحقيقها: تفكيك سورية، وتجريف دورها الإقليمي، ودفعها للاستسلام للعدو الصهيوني، وضرب آخر قلاع القومية العربية، وانتزاع قلب العروبة النابض من صدر الأمة العربية.. وهو ما يتطلب حملةً ثقافيةً فكريةً كبرى للدفاع عن عروبة سورية وتمسكها بالنهج القومي، توازي الحملة التي يشنها الجيش العربي السوري مظفراً في الميدان، حملةً لا بد أن يكون للمثقفين والمفكرين القوميين، من بعثيين وغير بعثيين، قصب السبق فيها.

وثمة مستفيدون من نفي الهوية العربية لسورية، فإن لم نعد عرباً، فإننا نصبح طوائف وأعراق وجهاتٍ وقبائل، فالهوية القومية العربية ليست ما انصهرنا فيه كشعب عربي عبر اللغة والوعاء الجغرافي والثقافة والمصير المشترك فحسب، بل ضمانة الوحدة الوطنية الداخلية في كل قُطر عربي على حدة، ونفيها هو المقدمة الضرورية لما يسمى “الشرق أوسطية”، أي لمشروع التفكيك القائم على تبلور الهويات الفرعية والمفبركة، فإن لم تكن سورية (وغيرها من أقطارنا) عربية، فإنها تنزلق على سكة الحركات الانفصالية والتشظي، وهو ما لا يمكن أن يرضى به حتى من يعارضون الدولة السورية إن كانوا وطنيين.

وثمة متضررون من خلط العروبة الرسمية، القائمة على صيانة حدود التجزئة التي رسمها الاستعمار، والمتمثّلة بالجامعة العربية، مع هويتنا الحضارية والنهج القومي العروبي، ولا سيما بعدما سيطر حكام الخليج على القرار الرسمي العربي. فسياسات حكام الخليج العربي ومواقفهم لا تمثّل توجهاً قومياً عروبياً، لأنها مرتهنة للطرف الأمريكي-الصهيوني، وما فعلوه في سورية خلال السنوات الفائتة سبق أن فعلوه مثله في عدة أقطار عربية منذ الخمسينيات والستينيات، وهو مثل ما يفعلونه اليوم في اليمن، وما فعلوه في ليبيا عام 2011، وما يفعلونه بالقضية الفلسطينية منذ ما قبل ما يسمى بـ”صفقة القرن” بأمدٍ طويل.

لذا لا يجوز البتة أن تُحمّل العروبة، هويةً وفكراً قومياً، وزر آثام الرجعية العربية، في الخليج العربي وغيره، وليسمح لي الإخوة والرفاق القوميون الذين يعتبرون الأمر واضحاً، لأنه لم يعد واضحاً عند كثيرين: العروبة والقومية شيء، والأنظمة القُطرية والرجعية العربية شيءٌ آخر، ولا يجوز الخلط بين الاثنين، والجامعة العربية ممثّلة العروبة الرسمية، لا ممثّلة الهوية العربية أو المشروع القومي، وما ضرب الأنظمة العربية ذات التوجه القومي العروبي، الواحد تلو الآخر، إلا محاولة لإخلاء ساحة العروبة الرسمية للرجعية العربية.

أما آفة الإرهاب التكفيري فلم تضرِبْ سورية وحدها، وهي لا تمثّل الصحراء أو البادية، بمقدار ما تمثّل من احتضنوها وغذّوها ووظفوها سياسياً، الذين كانوا ويبقون الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية والتركية، بالرغم من كل نقّاد “اللغة الخشبية” بيننا، كما أن من تأثّروا بالفكر التكفيري لم يأتوا من الأقطار العربية والإسلامية فحسب، بل كان بينهم سوريون، وكان السوريون بينهم أكثر من بقية العرب، فهل ننكر سورية، لأن بعض أبنائها انقلبوا عليها أو تحوّلوا إلى تكفيريين؟.

أما سبب عدم ارتقاء الشارع العربي إلى مستوى التحديات المصيرية في السنوات الأخيرة، فهو انحسار التوجهات القومية فيه، لذا فإن إعادة إحياء الحس القومي في الشارع العربي (والسوري) صمام أمام لكل قُطر عربي يتعرّض لتحديات مصيرية، فالحس القومي ليس “فكرة جميلة، لكن مثالية”، بل مصلحة استراتيجية مباشرة للأمن القومي العربي.

بجميع الأحوال ليكن واضحاً أن التشكيك بالعروبة هويةً ونهجاً يمثّل تشكيكاً بمشروعية نظام الحكم في سورية على مدى عقود، وفضلاً عن ذلك فإن المشروع القومي بالنسبة لسورية هو حصانة استراتيجية في مواجهة مخاطر التمدد التركي، وفي الحفاظ على استقلالية الدولة وسيادتها، حتى في العلاقة مع القوى الصديقة والحليفة.

إن الأقطار العربية المركزية بلا مشروع قومي هي أقطار محاصرة بلا دور إقليمي، تتخلى طوعاً عن حقها وواجبها بممارسة مثل ذلك الدور، فتترك فراغاً جغرافياً سياسياً تلعب فيه المشاريع الأخرى، المعادية والصديقة، فهل هذا عقلاني، حتى من وجهة نظر المصلحة القُطرية الضيقة؟. ويخطئ من يظن أن بإمكانه أن يدير عملية بناء قُطرية أو إعادة إعمار بلا رؤية سياسية كبرى، ومن يظن أن من حاربوه على مدى عقودٍ سيتركونه لشأنه، فلا مشروع تنموياً خارج سياق الصراع مع الامبريالية وأدواتها، وخارج إطار المشروع القومي.

ولذلك كله نقول: لا خيار عربياً إلا المشروع القومي.