دراساتصحيفة البعث

الركود العالمي: قراءة المؤشرات الحالية

 

باسل الشيخ محمد
بات الحديثُ عن قرب وقوع ركود وشيك العام المقبل منتشراً بين الأوساط الاقتصادية نظراً لوجود عدة مؤشرات لا تبدو قابلة للحلّ بشكل توافقي بين الأطراف. ولعلّ انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تسبّب بقلق مالي أكثر منه قلقاً على هوية الاتحاد الأوروبي، خاصة وأن انكماشاً طرأ على الاقتصاد الألماني –الأقوى أوروبياً- وارتفاع الديون السيادية على عدة دول لتصل نسبة هذه الديون –كما في بريطانيا- إلى خمسة وثمانين بالمائة من إجمالي الناتج المحلي.
هنالك أيضاً العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على عدة دول بما في ذلك كندا الجار الحليف، وهنالك أيضاً الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين التي كان لها تأثير على الاقتصاد الصيني بحيث تباطأ إلى أدنى مستوى له منذ سبعة عشر عاماً. كل تلك المؤشرات إضافة إلى الصراعات الجيوسياسية دفعت بمصرف “غودمان ساكس” إلى التحذير من ركود عالمي وشيك.
تلميح الصين يوم التاسع عشر من آب الجاري، والذي ألمحت فيه إلى إنشاء خطط لتحفيز النمو الاقتصادي، أعطى دفعة قوية بين أوساط الأسواق العالمية لترتفع أسعار الأسهم دفعة واحدة. تقضي خطة الصين بدعم الدخل القابل للإنفاق في هذا العام والعام المقبل –الذي يتوقع حصول الركود فيه- ما سيجعل الكثير من الشركات تنتعش بفعل الطلب على منتجاتها من المواد الخام أو نصف المصنّعة.
إلى ذلك، يعتمد المستثمرون هذه الفترة على ما يُعرف بمنحنى العائد المقلوب، والذي تكون فيه عائدات الديون طويلة الأمد أقل من عائدات الديون القصيرة. وهذه الظاهرة تسبق أي فترة ركود، لأن عائدات القروض الطويلة ستنخفض مع مرور الوقت إلى جانب قلّة عائدات القروض القصيرة، فضلاً عن أن قروض المستهلكين ورهوناتهم العقارية ستكون تحت طائلة تحديث دوري ترتفع تدريجياً، يشمل هذا خطوط التأمين، ما يحدّ من الدخل المستهلك ليؤثر بدوره على الاقتصاد عموماً.
وفي الواقع فإن الصين سارت على طريق التسهيلات الكمية التي فشلت الولايات المتحدة في الاستمرار في تطبيقها بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008. أما في الولايات المتحدة فقد تسبّب الانقلاب في منحنى عائدات سندات الخزانة الأمريكية بهبوط 3% في يوم واحد، أعقب ذلك شراء المستثمرين للسندات ذات العائد المنخفض، ما جعل قيمة السندات سلبية العائد ترتفع في أوروبا لتصبح 16 تريليون دولار، الصورة الأوسع تشير إلى خفض المستهلكين للإنفاق رغم سير وتيرة الإنتاج كما هي، ويمكن للعقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة أن تتسبّب في حالة من الكساد ليس فقط الركود!.
لا يمكن ترجمة سياسات المصارف العالمية وتحركاتها إلا على أنها ترقب لأزمة اقتصادية عالمية مقبلة شبيهة بتلك التي وقعت قبل قرابة اثني عشر عاماً. فمثلاً: أعلن المصرف الفيدرالي الأمريكي عن ارتفاع بنسبة 2.46% في عائد سندات الخزنة لمدة ثلاثة أشهر، فيما سجل عائد سندات الخزنة نفسها لمدة عشرة أعوام 2.42%. الفارق السالب بين المعدلين كان واضحاً في الاقتصاد الألماني –الذي يشهد فترة انكماش حالياً- وهذه الظاهرة تعزى إلى عدم قدرة المصارف على معالجة قلق المستثمرين الذين يتحسّسون أزمة مقبلة نتيجة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومن العقوبات الأمريكية التي لا يبدو أنها ستتوقف عند حدّ، خيار المستثمرين حالياً هو الاستثمارات قصيرة المدة.
الأزمة تبدو أكثر وضوحاً في الأفق إذا نظرنا إلى قرار صندوق الثروة السيادي بالنرويج البالغة قيمته نحو تريليون دولار، سعى القرار إلى إنهاء حيازته لسندات الشركات والحكومة في الأسواق الناشئة كالمكسيك وكوريا الجنوبية وتشيلي وجمهورية التشيك والمجر وماليزيا وبولندا وروسيا وتايلاند. أكد الصندوق أن حالة عدم الثقة لم تقتصر فقط على المستثمرين الأفراد بل تعدّتها إلى أكبر المؤسسات السيادية استثماراً في السندات، وهي خطوة جديدة هزّت سوق السندات العالمية، كما حوّل الصندوق ممتلكاته للاستثمار في مشروعات البنية التحتية والطاقة الجديدة والمتجدّدة في النرويج، وهو ما يشير إلى تحول وجهة المستثمرين إلى الاستثمارات الأقل خطراً.
إن بقي التركيز على الاستثمارات القصيرة فقد نسمع عما قريب قرارات مماثلة من مصارف أخرى، بل إن صندوق النقد العالمي خفّض توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي للمرة الرابعة على التوالي ليصل إلى نسبة 3.3%.
المؤشرات ودلالاتها
نتيجة للواقع الاقتصادي العالمي الراهن، لم يكن مستغرباً أن يتقلّص الاقتصاد الألماني بنسبة 0.1% في الربع الثاني بعد نمو ضئيل بنسبة 0.4% في بداية العام، لا تزال الحكومة الألمانية متردّدة بشأن الإنفاق لتحفيز النمو بعد أن تبيّن أن الاستثمارات قصيرة الأمد تظهر –إضافة إلى منحنى العائد المقلوب والحروب التجارية- أن شيئاً ما يلوح في الأفق.
دلالة أخرى من المملكة المتحدة هي تقلص نموها بنسبة 0.2% في الربع الثاني بعد أداء هزيل بنسبة 0.5% في الربع الأول، وبحسب ما ذكرناه فإنّ من البديهي أن يتراجع الاستثمار بكافة أشكاله لديها، ويقول مراقبون إن شبح الركود يحوم حول بريطانيا.
إيطاليا مؤشر ثالث كان قد دخل فعلياً حالة الركود العام الماضي، بلغت نسبة نموها 0.2% ولم تعد تستطيع الاستعانة ببيع منتجاتها لألمانيا، فضلاً عن أن ديونها هي إحدى أعلى الديون ارتفاعاً من حيث معدلاتها، الأمر الذي قد يجعل أزماتها المالية تعيش عمراً أطول من دول لأخرى.
الأسهم الأوروبية عموماً تشهد انخفاضاً منذ ستة أشهر، إذ أنهى المؤشر “ستوكس 600” الأوروبي جلسة التداول منخفضاً 1.7 في المئة، بعد أن لامس أدنى مستوى منذ الخامس عشر من شباط الماضي، بينما هبطت مؤشرات الأسهم في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا لأكثر من 2 في المائة.
وبهذا نستطيع تفسير هبوط أسعار الذهب عالمياً هذه الفترة، إذ تراجع الذهب في المعاملات الفورية 0.2 بالمائة إلى 1512.45 دولاراً للأونصة. وتراجعت العقود الأميركية الآجلة للذهب 0.3 بالمائة إلى 1523 دولاراً.
الهاجس الأكبر حالياً هو تقلّص نمو الاقتصاديات الناشئة، كما حدث مع سحب صندوق الثروة النرويجي لملكية سنداته، لكن هذه المرة لأغراض تتعلق بأذى يتسبّب به من بدأ الحرب التجارية مع العالم بأسره.