عيني عليك يا دمشق.. والفؤاد
أما الزمان فإنه الأبد، وأما المكان فهو عروس البلاد دمشق، والحدث قدوم ضيفها الرفيع المعتاد كل عام، جاء وجلب معه الكثير من الفرح في جيوبه كالجد الطيب، في وقت أشد ما نحتاجه فيه، إنه الفرح الذي يحمله معرض دمشق الدولي في وجدانه كما في وجدان أحبابه، يوزعه على الجميع كأرقام اليانصيب الرابحة في دوائر أُمنية، ضيف عريق من ضيوف أيلول شهر القطاف، شهر العنب والتين والحنين، المعرض الرمز لكل ما هو راق ونبيل ومفيد، فيه ما فيه من رسائل حقيقية ستجعل أعداءه بائنة أنيابهم، وأحبابه بادية قلوبهم، ويمكن الجزم وفق قراءة عاطفية لهذا المشهد الباذخ القوة والدلال، بأنه ما من سوري أصيل، سواء زاره ولسع قلبه النعنع والطرخون، أم العكس، فاته وجوده في روضه جسدا، وروحه تزور المكان وتلهو بالألفة، إلا وله في قلبه منزلة رفيعة، فهذا ليس معرضا اقتصاديا وانتهى الأمر، إنه معرض حياة متجددة، كلما زارها الموت، وهبتها الطبيعة ألف ألف وردة خلود، وكلما تعاظمت عليها الخطوب، صار ياسمينها أكثر بياضا، وشوارعها قصائد.
ككل سوري من غار وياسمين وقفت أرقب مفتونا، كيف يحضر الجمال بمفرداته البهاء، سواء تلك التي جاءت من الماضي مع جرعة حنين مرتفعة، تجعل القلوب تخفق بسرعة وكأنها تريد أن تخلع درفات أقفاصها وتخرج إلى الفرح المنفلت من عقاله صاخبا، يطير بين الأرض والسماء بخفة باشق ورقة يمامة، أو تلك التي تضج بها الحياة اليوم، الجو الرائق والجمهور السوري وضيوفه من كل حدب وصوب يتبادلون أنخاب الحياة، وعلى شرف البلاد المقدسة، ومن سيّجها بالورد والنار، يرفعون كؤوس المجد لائحة خمرة الفخر على زجاجها، التي لمعت خفرا فخجل الغروب حتى أدمى وجنتيه.
كما لو أني به نزار، يقف على كتف جبل قاسيون، يتلو بصوته الشامي العتيق قصائد الياسمين والغار على مسامع حبيبته الأسطورية “دمشق”، يُرصع بذهب الكلام، سيفها الذي نسيه غمده، لطول ما أشهرته السيدة الجليلة في وجوه أعدائها، قائلا: شام يا شام يا أميرة حبي/كيف ينسى غرامـه المجنون؟ /أوقدي النارَ فالحديث طويلُ/ وطويلُ لمن نحب الحنين”، يا له من حنين يبعث الروح بالحجر، وكأن نهر الزمن أوقفه فتدفق الحنين واقفا.
أو كأني بها تطل من جبل الشيخ، رسولتنا بفستانها السماوي البديع، وعلى شعرها وضعت وشاحا رقيقا كما بشرتها الناصعة بالمحبة، تغني: شآم أهلوك من أهوى وموعدنا، أواخر الصيف آن الكرم يعتصر/ شآم يا ابنة ماض حاضر أبداً، كأنك السيف مجد القول يختصر”.
البلاد التي تحالف عليها أبالسة الجحيم، وتم العمل والتخطيط والتنفيذ مستمرا لكسر ظهرها، بكل ما يخطر ولا يخطر في بال إبليس نفسه، فعلوا مالم يفعله التتر، حتى الأكباد أكلوها وكلمة “خيي” بادلوها بالرصاص، لكن هذا طويل على رقبة أي شيطان منهم أفرادا كانوا أم جماعات. هلكت ممالك ومات سلاطين، واستذأب الغربي حتى بانت أنيابه وأظافره من تحت بزته الفخمة وربطة عنقه الفاحشة، شاشات (الحرية) صارت أم أربعة وأربعين، ومنها من تحول إلى أرملة سوداء وعقارب وغيرها من هَوَامُّ الأرض، لكنها الأيام تخبرنا وتخبر العالم كله، مسمعة كل من به صمم، أن هذا الوطن العزيز يُفتدى بالدماء، وهذا ما فعله أبناؤه عندما ناداهم طائعين مختارين راضين، في فم الردى وقفوا ابتساماً، عن الحياة يذودون بالحياة، أما من رحل منهم، فله وعليه ومنه السلام، كل الكلام يتهالك عن وصفه، وأمامه تصمت يانعات الورود منحنية حيث يغفو كالنسيم، وأما من لم يزل مرابطا على الثغور حتى اللحظة، فهؤلاء كلهم أنبياء هذا الزمان ومبلغي رسالة الحق والخير والجمال
طريق المعرض مفتوح للمحبين من كل مكان، وعن مكانه لن يتوه مستجد في زيارته، فكل الطرق اليوم تؤدي إلى طريق معرض دمشق الدولي في نسخته ال 61، نسخة مفعمة بالحياة، تنبض فيها الذكرى العزيزة، عميقا في غوطة دمشق تزهو أنواره، وضحكات الناس تملأ السماء، إنه الفرح، الذي جلبه ضيفنا الجميل، يطغى على أي شعور آخر، حتى المرارة والحزن والقهر والفقر، تختفي ولو للحظات، وها هي غيمة من عطر، تُغلف القلوب الحزينة، وتعد بضحك قادم بانت تباشير صباحه.
تمّام علي بركات