هل القضية الفلسطينية شأن سوري؟
د. إبراهيم علوش
لعل من أسوأ آثار سنوات الحرب الممتدة على سورية، والحصار الخانق، أن هناك من يظن أن هذه الآثار ستدفع بعض السوريين ليتساءل: ما لنا وفلسطين والقضية الفلسطينية؟ ولماذا لا نوقّع معاهدة أو اتفاقية مع العدو الصهيوني أسوةً ببعض الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية ذاتها؟ ولماذا نتحمّل عبء الصراع العربي-الصهيوني من دون الدول العربية؟ وما المشكلة في التطبيع إذا كان ذلك ينهي الحرب والحصار، ويتيح لنا أن نتفرغ لإعادة بناء سورية كدولة ومجتمع واقتصاد؟ ألم نعان بما فيه الكفاية؟! إلخ…
في البداية لا بد من القول إن من المهم والضروري مواجهة مثل تلك الأسئلة مباشرة، لا التغاضي عنها وكنسها تحت السجادة أو التعامل معها كهراء جاهل لا داعي لتشريفه برد، لأن أحد أهم أهداف الحرب على سورية وغيرها من الدول العربية هو ضرب عروبة سورية، وفك ارتباطها العضوي بالقضية الفلسطينية كعنوان عروبي من جهة، ومن زاوية تحجيم دور سورية الإقليمي من جهةٍ أخرى، وهو ما يتطلب خلق جوٍ مشككٍ بالقومية والعروبة وفلسطين والمقاومة في صفوف الناس، بالنكتة تارةً، وبالتهكم طوراً، وبالطرح السياسي المباشر في الجلسات الاجتماعية وعبر منابر وسائل التواصل الاجتماعي تارةً أخرى.
لا بد إذاً من تذكير الناس أن معاناتهم وحصارهم وقتلهم وإفقارهم جاء كنتيجةٍ مباشرةٍ لمشاريع أو مخططات شاركت فيها دول غربية وعربية شتى، وتركيا والعدو الصهيوني، وإذا كانت هناك أخطاء أو تجاوزات أو سوء إدارة أو فساد أو ما يشاء القارئ الكريم أن يضيفه، فإن ذلك لا يلغي حقيقة التدخل الخارجي في الحرب على سورية التي بدأت معالمها تظهر على السطح رويداً رويداً منذ آذار 2011 حتى باتت كالشمس في رابعة النهار لا يستطيع أن ينكرها أحد، وقد ظهر بشكلٍ جليٍ أيضاً أن تجاوزات وفساد واستباحة كل شيء ممن زعموا أنهم “ثوار” قدموا من سورية ومن خارجها تجعل حديثهم عن التجاوزات والفساد نوعاً من الفكاهة الممجوجة، كما أن أصحاب مشاريع الإصلاح الحقيقيين لا يضعون أيديهم بأيدي أعداء وطنهم مثل العدو الصهيوني الذي يحتل أرضهم، ويعيث فيها فساداً.
إن ما جرى في سورية خلال السنوات الثماني الماضية، ومن قبلها، لا يمكن فصله عن العدو الصهيوني ومشاريعه في المنطقة، وقد وثّقت في محاضرة بعنوان “البعد الصهيوني في الحرب على سورية” برعاية مؤسسة القدس الدولية يوم الأربعاء الفائت في مكتبة الأسد الوطنية أشكال التدخل الصهيوني في سورية خلال السنوات الأخيرة اعتماداً على مراجع غربية وصهيونية، وكان على رأسها:
1) العلاقات الوطيدة بين العدو الصهيوني وفصائل وشخصيات عديدة مرتبطة بـ”الثوار” المزعومين بجناحيهم السياسي والعسكري، وكانت بعض تلك العلاقات تعود للعام 2006، كما أنها تضمنت الدعم والتمويل والتسليح “الإسرائيلي” المباشر لاثني عشر فصيلاً في جنوب سورية، ومنها الجماعات التكفيرية، ناهيك عن الرسائل التي تم إرسالها من بعض القيادات السياسية لأولئك “الثوار” المزعومين للعدو الصهيوني منذ عام 2011 للتأكيد على “سلمية نواياهم” إزاء العدو الصهيوني،
2) دور اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية في تأجيج الحرب على سورية، ومن ذلك دور هنري برنار ليفي في عقد مؤتمر في باريس في صيف عام 2011 بحضور شخصيات مرتبطة بـ”جماعة الإخوان المسلمين” وغيرهم، ودور اليهودي الصهيوني أليوت إبرامز وغيره في وضع مخططات لتأجيج الحرب في سورية على خطوط طائفية بدعم أمريكي، ومن دون تدخل عسكري مباشر.
3) التدخل العسكري الصهيوني المباشر والمتكرر، جوياً وصاروخياً ومدفعياً، في الحرب على سورية، ولا سيما في الجنوب السوري ضد مواقع تابعة للجيش العربي السوري، أو ضد الطائرات السورية، في خضم المعارك ضد العصابات المسلحة والتكفيرية، أو لرفع معنوياتها بعد هزائمها، بالإضافة للتدخل الاستخباري عن طريق المشاركة في غرفة “الموك” مثلاً وما يعادلها في تركيا.
الانخراط الصهيوني في الحرب على سورية، سواء مباشرةً، أو بالتعاون مع بعض الدول الغربية أو العربية أو تركيا، أتى بدوره في سياق استراتيجي محدد كان قد وضعه أمثال برنار لويس ووثيقة “كيفونيم” في بداية الثمانينيات، وهو سياق يقوم على تفكيك دول المنطقة وتغيير هويتها إلى “شرق أوسطية”، كما أنه جاء في سياق مشروع المحافظين الجدد في الولايات المتحدة (الصهاينة في معظمهم) القائم على سياسة “تغيير الأنظمة” التي وضعت سورية على قائمتها.
ما جرى في العراق، وما جرى في ليبيا، وتفكيك السودان، وما يجري في اليمن اليوم، ليست الأصابع الصهيونية ببعيدة عنده، لأنه يجري ضمن أجندة صهيونية، فالقصة هي أن وجود دول مركزية أو مستقلة هو المشكلة، ومشروع إثارة حرب أهلية في سورية ثمة وثيقة تتحدث عنه لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA من العام 1986، وقد تم الإفراج عنها بعد 30 عاماً. فسورية لم تترك لشأنها منذ البداية، وواهم من يظن أن العدو سيتركه يبني عناصر قوته بسلام، وأنه لن يحتاج لاستراتيجية أمن قومي تصنف العدو الصهيوني كتهديد أول له، وها هي “صفقة القرن” تتضمن “ضم الجولان” رسمياً للعدو الصهيوني، لا القدس فحسب.
سورية إذاً مستهدفة منذ البداية، لأن بقاء دولة العدو الصهيوني على المدى البعيد يتطلب أن يكون جيرانها ضعفاء ومفككين وفاقدين للهوية والانتماء، وإلا فإن المحيط العربي سيبتلع هذه القاعدة الصهيونية، وسيغرقها، فما جرى في سورية، وفي العراق وليبيا، هو فصلٌ آخر من الصراع العربي-الصهيوني، وقد كان سيجري لأنهم موجودون، ولأنهم عرب، ولأن أي مشروع تنمية مستقلة لا يسمح به الغرب في هذا الجزء من العالم، وقد دمّره الواحد تلو الآخر بالعنف والتآمر منذ محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
باختصار، فلسطين جنوب سورية، ولكنها لو لم تكن، فإن فلسطين احتلت، وتم وضع قاعدة صهيونية فيها بناءً على تخطيط بالمرستون البريطاني في القرن التاسع عشر لمنع الوحدة العربية في خضم تجربة محمد علي باشا الوحدوية، وبالتالي فإن المشروع الصهيوني موجّه ضد الأمة العربية، حتى لو كان الفلسطينيون هم ضحاياه المباشرون.
من وقّعوا المعاهدات مع العدو الصهيوني بالمناسبة لم يكسبوا لا اقتصاداً ولا سياسة ولا دوراً إقليمياً، على العكس تماماً، تتفاقم الأزمات الاقتصادية أكثر ما تتفاقم في الدول العربية المطبّعة مع العدو الصهيوني، كما أن المعاهدات تشطب فعلياً الدور الإقليمي للدول العربية المنخرطة فيها، وصولاً لتهديد الدور الأردني في مقدسات القدس مؤخراً.
أما دعم سورية للمقاومات العربية، فنقل للمعركة خارج أسوارها، أما الحرب على سورية، فنقل للمعركة إلى داخل أسوارها، ولا خيار لنا إلا بتصعيد المقاومة والنفس القومي العروبي في الشارع العربي كجزء من استراتيجية الأمن القومي لسورية وكل الأمة العربية.