في محراب الحقّ
عبد الكريم النّاعم
عبر الأزمنة، وعبر تواريخ الأمم، كانت، وستظلّ، الكلمة النّاصعة، الحاملة لهموم الناس،.. ذات أثر فاعل ومخيف بالنسبة (للسلطان) الجائر، ولذا لجأ أصحاب السيف، و(التسلّط)، ولا أقول (السلطة)، إذ لابد من وجود سلطة تنظّم شؤون الناس الذين يشكّلون مجتمعا ما، لجأ المتسلّطون إلى كمّ أفواه الناس، وفرضوا قوانينهم المحقّقة لمصالحهم السلطويّة، والفئويّة، وفي كلّ الأزمنة ثمّة مَن هو مستعدّ للتخلّي عن أقدس المقدّسات لقاء كسب ماديّ، أو جاه، زائلين، وقلّة كقلّة الحجارة الكريمة لا يبالون في قول ما يجب أن يُقال، هذا في المجتمعات التي يغلب فيها القمع، أمّا المجتمعات الديمقراطية فإنّها تترك للناس أن يتحدّثوا، ويكتبوا مايرون، بيد أنّ معظم السلطات الغربيّة تدع الناس يقولون ما يريدون ويفعلون ما يريدونهم، بحسب مقتضيات مصالح رأس المال، والشركات الكبرى، ولعلّ هذا يتجلّى أكثر ما يتجلّى في (الويلات) المتحدة الأمريكيّة، وليس هدفنا التفصيل في ذلك فقد أصبح معروفا لدرجة الإملال، وسنظلّ، في إيماءة من إيماءات محراب الحقّ، وإذ نلتقطها من التاريخ فللعبرة والدلالة.
تروي كتب التاريخ والأدب أنّ أحد الخلفاء العبّاسيّين أراد تصفية خصم له، اقتنع أنّه يشكّل خطورة على سلطته، وكان الليل قد انتصف، فأرسل إلى مَن يثق به من قوّاد دولته، أيقظه من نومه، وحين مثل بين يديه قال له “أريدك لأمر”، فأجاب المُستقدَم: “(روحي) فداؤك يا أمير المؤمنين”، فنظر إليه الخليفة وقال: عُدْ إلى بيتك”، وما كاد الرجل يستلقي في فراشه حتى استُدعي مرّة أخرى، وكرّر الخليفة القول السابق، فقال المُستقدَم: “(روحي ومالي) فداؤك يا أمير المؤمنين”، فأشار له أن ينصرف، وقبل عودة النّوم إليه استدعاه الخليفة، وكرّر عليه ما قاله في السابق، فأجاب (روحي ومالي وأهلي فداؤك يامولاي)، فأشار إليه أن ينصرف، وكما في المرّات السابقة استُدعي، وكرّر الخليفة القول، فقال: ( روحي، ومالي، وأهلي، وديني فداؤك) يامولاي، فتبسّم الخليفة بارتياح وقال له:” اذهب واقتلْ فلانا”، وكان من الذين بلغ الخليفة عنه أنّه يومئ في أحاديثه إلى إدانة الاستبداد، والأثرة، والإعراض عن حاجات الناس.
العبرة أنّ ذلك الخليفة لم يثق به حتى فداه بروحه، وماله، وأهل بيته، ودينه!! اليوم نرى من بعض حكام العرب انصياعاً أكثر تسفّلا من هذا، وقبولا بأن يكونوا أدوات شرّ بامتياز.
حين أراد أحد الخلفاء الأمويّين أن يمهّد لاستخلاف ابنه يزيد، المعروف بمجونه، وخلاعته، ذات يوم اجتمع من يقرّبهم منه حوله، فتوجّه لأطولهم باعاً، وأكثرهم عشيرة ورجالا، فسأله مارأيه في استخلاف (…)، فأجاب المسؤول بحكمة الدّاري العارف، الذي لايريد أن يُسجَّل عليه أنّه كان آلة طيّعة تُدار كما يودّ صاحب المجلس فقال مامعناه، ياأمير المؤمنين، نحن نخشى الله إنّ كذبْنا، ونخشاك إنْ صدقْنا، وأنت أدرى بمدخَل ابنك، وبمخرَجه”، ولم يزد على ذلك، فحفظ قيمة رأيه، إلى حدّ ما، ولم يرحّب بالفكرة في إشارات مُضمَرة واضحة، لمن يريد قراءة مابين السطور.
في هذا السياق يخطر بالبال أصحاب الأقلام، أصحاب (القول- اللّسِنين)، من أبناء هذا الوطن كيف استطاعوا أن يذهبوا إلى الصفّ الذي تقف فيه دول الخليج، وإسرائيل، وأمريكا؟!! تُرى أين هي أمانة الكلمة، التي افتتح الله بها الوجود، “في البدْء كانت الكلمة”؟!!
أين شرف أن يظلّ الإنسان وفيّا لمبادئه التي أمضى الشطر الأكبر من حياته وهو ينادي بها؟!!
يبدو أنّها في مواجهة سيل الدولار، أو الدّينار، يسهل على البعض، من أمثال مَن أشرنا إليهم، أن يتخلّوا عن كلّ القيم والأعراف النّبيلة..
aaalnaem@gmail.com