قسطنطين زريق المفكر القومي العربي في زمن الحلم
هو أحد عمالقة القرن العشرين ممن حاولوا في ضوء رؤياهم الصائبة الارتقاء بالوطن العربي إلى المستوى الأرفع، والاستقلال الأوسع والفكر الأرحب، والحرية الأعمق، لقد كان قسطنطين زريق عملاق عصر متحرك متوثب، أراد لشعبه أن يحتل الموقع الذي يستحق في حدود المكان والزمان، وهو أحد قامات الفكر والأدب والحياة في الندوة التي جاءت بعنوان “قسطنطين زريق المفكر القومي العربي في زمن الحلم” في مكتبة الأسد الوطنية، وأدارها د.إسماعيل مروة.
المحلل التاريخي
افتتح د.خليل سارة الحديث بكلمة رثائية تكريمية تحمل عنوانين أساسيين هامين: الأول انفراط العقد الثمين والثاني إن كان لنا أن نصدر حكماً عادلاً على حضارة ما، فيجب أن يقوم حكمنا على النواحي الفكرية وعلى أصحاب الفكر في تلك الحضارة. وتابع سارة: إن من أشد أنواع الفقد على النفوس وقعاً وأشده على الأمة فقد العلماء، وقد تميز عقل إنساننا وعالمنا الجليل بفلسفة إنسانية تعلي من شأن العقل والأخلاق والعدالة كوسيلة لضمان صلاح الإنسان وجودة الحياة الاجتماعية والعلمية.
أما بخصوص توجهات زريق الفكرية فقد عرف بالتحليل التاريخي الذي أبدع وأنتهجه في تصوراته لعالمنا العربي الواقع في سداد المشاحنات الفكرية بين الماضي والحاضر والمستقبل، لقد أعطت قراءاته وتحليله للتاريخ منظوراً إيجابياً على واقعنا العربي وآخر منظوراً سلبياً، كان يحذر جداً من الإيقاع في هذه السلبيات بكل قوة وشجاعة، وكأنه عاش في زمننا الحاضر، ومن المفاجئ أن كل مايعيشه الواقع العربي حالياً من صراعات فكرية وسياسية وقومية كان قد أشار إليها زريق في تنبؤاته عن مستقبل العرب طالما حذرنا منها كثيراً وألا نقع في تلك المطبات التي صنعتها الرجعية والفكر الرجعي والاستعمار المتصهين في تخريب كل ماأنجزناه في الماضي القريب والبعيد.
منابع فكرية
ولعل الحديث عن الثقافة القومية العربية تاريخياً يؤكد لدى العرب نزوع الانتماء إلى منازلهم وحيزهم الجغرافي وتاريخهم وثقافتهم ولغتهم التي تعبر أحسن تعبير عن خصائصهم الاجتماعية والوجدانية، وعن المنابع الفكرية تحدث د.حسين جمعة:
إن أول تجليات الفكر القومي لدى قسطنطين زريق يرتبط بمصادره التراثية وبالفكر الديني المتسامح وروحه البعيدة عن التعصب والتمذهب والطائفية، فالعروبة وجه والدين الحق وجه آخر لمفهوم العدالة والتسامح، وثاني التجليات اتسام الفكر القومي بروح الانفتاح على التراث الإنساني، وثالث التجليات لديه أن الفكر القومي العربي هو الذي يشكل القومية العربية بوصفها قضية حضارية منفتحة على التحرر السياسي والاجتماعي والاقتصادي ومرتبطة بالعدالة والكرامة على المستويين الفردي والجمعي.
ومن يرجع إلى مؤلفات المفكر زريق وأبحاثه ومواقفه وآرائه يجد أنها تجسد فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية بكل ملامحه، لذا فإن التراث والدين لديه ووفق حقيقته المتصورة إنما يحملان رسالة إنسانية، ومضموناً خلقياً نبيلاً، كما يرى أن العروبة هوية حضارية محددة بخصائصها الثقافية والاجتماعية المرتبطة بالوعي الذي يجذّر العمق العاطفي للوجود الحيوي العربي التاريخي، ويثريها بالبعد السياسي الذي يجسد جوهر الحياة العربية وشخصيتها المتميزة، أي أن القومية العربية بمعناها الجغرافي والثقافي اللغوي والاجتماعي صورة للمستوى النهضوي العقلي.
الفكر القومي
وتحت عنوان الفكر القومي عند زريق تحدث د.سليم بركات:
عمل زريق على بناء مجتمع قومي موحد يفيد من الإمكانيات البشرية والمادية، كما بقي يبحث عن دور للمغتربين العرب إنه علم من أعلام العروبة تقوم رؤيته المستقبلية على عدد من الأعمدة العلم، التقانة، التنظيم المجتمعي، والدولة الديمقراطية على أسس علمانية. ولعله من المفكرين العرب الأوائل الذين أدركوا ما للنخبة المجتمعية الفكرية من دور حاسم في القرار المجتمعي القومي، فهو يرى في الوحدة العربية ضرورة للعرب من أجل توسيع الآفاق، وهذا لا يكون إلا من خلال التربية الأخلاقية السليمة الملتزمة بالعروبة وعلى رأسها عروبة القضية الفلسطينية تصوفاً.
إن من يقرأ قسطنطين زريق لايستطيع أن يتهم العقل العربي بالقصور، لأنه غني بالنوابغ من أمثاله تقبل التحدي وتكرس الحياة، وحياة زريق كلها عمل وتضحية من أجل العقل العربي والإنسان العربي، وهو يعد التخلف والتمزق والاستبداد من أوصل العرب إلى الكارثة، وأن الخروج منها يبدأ بتقدم العقل العربي القومي على الطريقة القومية. ربما يأخذ بعضهم على زريق أنه ليس قائداً جماهيرياً لأنه لم يؤسس حزباً، ولم يشارك في مسؤولية سياسية، ولم يستطع أحد اتهامه بالترفع عن الجماهير أو بالابتعاد عنها أو بالاستخفاف بها أو بالتقليل من أهميتها، إنه وهذه الجماهير التحام في الإرادة والشعار، وهذه هي سمة المفكر الملتزم الذي حرر نفسه من رغبات الزعامة وطلب المكاسب السياسية والمناصب الرسمية، وإذا أردنا وصف هذا الرجل فيمكن القول أنه حمل رسالة وطنية قومية إنسانية بامتياز، وتجلى مناضلاً واعياً عندما ربط بين الحضارة والقومية، ومابين الحضور المعرفي والكفاح القومي، وكل ذلك نابع عن إيمان بالشعب العربي وبقدرة الإنسان العربي وإذا كنا نتوق لاختصار مسيرته فعلينا أن نردد جملة نيرودا الشهيرة “أنا وحدي شعب”.
السؤال الذي يطرح نفسه هو ماالذي تبقى لنا من قسطنطين زريق؟ ما من شك أن ماتبقى لنا من هذه الشخصية الفذة هو القدوة الشخصية الداخلة في خضم واقع القرن العشرين بتياراته واتجاهاته، بوعوده وخيباته وآماله، وإحباطه وتوتراته، وبمرجعيته وسبل تجاوز هذه المرجعيات.
جمان بركات