في مديح من هم مديح!؟
د. نهلة عيسى
استيقاظي كل يوم, أصبح وجعاً فوق كل الوجع, لأنه يذكرني أية مأساة هو الصحو في بلاد لا تعرف من أين وإلى أين؟ وفي وطن صار حال شعبه كحال اليتيم, حديثاً ذا شجون, وخبراً لم يعد أولاً في نشرات الأخبار, ولكنه خبر دائم وطبق يومي, وتفصيل ما زال مثيراً في حكاية طويلة, نشرت فيها جروحنا على اللوحات الإعلانية, وأصبحت بضائع تشترى.. من أغان وصور واكسسوارات ونعوات ودلات قهوة وخيام عزاء, وخطابات حماسية, وحلفاء وأعداء, وتهديدات دولية, وتراجعات إقليمية, وتدني مستوى عيش حتى حضيض الحضيض, وعلى أولى, على دوا, على تري, وصاحب النصيب من يدفع أكثر, وأحياناً من يدفع فقط, إذ لم يعد يُختلف علينا بالسعر!!. ولكني رغم الوجع, وربما بسبب البلاهة, أرى في كل يوم, نقطة ضوء راكضة وسط اليأس, وأتذكر وسط “الزهايمر” الجنون الذي نعيشه, كيف أن كل الأمهات رائعات, بهيات, وكيف أنهن نسخاً من صورة النبع, وكيف يقلن نفس الكلام في كل بيت, وكيف شتائمهن متشابهة, وشكواهن متطابقة, وكيف يدعين من طرف اللسان على الأبناء ويحقدن على من يقول: آمين؟.
وكل الآباء أمراء, نبلاء, عصيون على التعريف والتوصيف, لأنه من الصعب تفسير ما معنى أن يتعايش الحب مع بؤس الواقع, والبارود مع النار, والجرح مع السكين, والتوق مع الخيبة, والغفران الدائم مع العصيان, وخوابي الصبر مع المطارق, والانتظار مع الرحيل, والتفهم مع الغضب, وكيف يكون صمت البحر دائم الصراخ للموانئ البعيدة, وكيف تعاشر النوارس يخوت اللامبالاة, والموجات العالية من غربة الروح في مواجهة النكران!؟.
كل الأمهات والآباء في بلادنا قلاع؟ وفي حربنا أساطير حقيقية نسجتها هذه القلاع, ستروى حتى بعد ألف ألف عام, حيث كان يا ما كان: الزغاريد والاستعانة بالله تحتفي بجثامين بضعة القلب ورصيد العمر, وطائرات زوارنا صارت طائرات إقلاع الأبناء, تجر على الآباء والأمهات الخيبة والإحساس المر بعار لم يرتكبوا إثمه, هم الذين عاشوا الوطن جثماناً تلو الآخر, وشهقة شهقة, وما بغضوا, ولا كرهوا ولا حقدوا, بل شكروا وحمدوا!!
كل الأمهات والآباء في بلادنا بيوت؟ رغم الشمس الساطعة الشر, والشوارع القبور, والولادة رفيقة الاحتضار, والخراب الذي بات تذكرة سفر, ورغم حقيقة أن القاتل في ليل, هو حامل النعش في الصباح, ورغم أن الهجرة تحولت إلى معلقة شعرية شاعرية تجمل الرحيل, وتشجع الجري على خطوط الطول والعرض, ولو بأوصال مقطعة وكرامات مفتقة, وتجعله تعقلاً وبطولة ورجولة, لتغسل أيد “فائضي الحنان” في الداخل والخارج من جوعنا, وعرينا, وعوزنا, واهتراء صبرنا, ونزيف دمائنا!!
كل الأمهات في بلادنا حنونات؟ وكل الآباء بحق رجال, بكوا أهل الغوطة وإدلب من خلف الشاشات, ونسوا في لحظات كل الثارات, رغم أن بكاءهم يبدو للوهلة الأولى منتهى الجنون, ولكن منتهى العقل ومنتهى الجنون مترادفان, أليس رحمة من الرب بالوطن أن أمهاتنا حنونات, وأن آباءنا رجال؟ رغم أن الخجل لم يمت أحداً ممن خرجوا إلينا من جحور الكراهية, يهتفون باسم وطن كانوا سبباً في دماره, فنحزن أن عدسات المصورين تقتات الأخبار من ذل هؤلاء, وتستضيف الفاجر الشامت, ليفلسف الخواء والانتظار, وليشرعن الأقنعة الشمعية لعالم لم ير في موتنا, وفي ذل بعضنا سوى فرصة لقتل الوطن!!.
كل الأمهات والآباء في وطني.. أمي وأبي؟ لأن خوفهم على الوطن هو الوطن, وأسئلتهم وفي الحضن صور الأبناء الشهداء عن باقي جند الوطن: ماذا يفعلون, وأين وصلوا, وهل أكلوا, وهل شربوا, وهل كانت السلامة رفيق دربهم؟ صارت أسئلة عار في وجوه من لا يحفظون كرامة هؤلاء الصابرون والصابرات, عليهم أن يجيبوا عليها يوماً أمام محكمة الوطن.
كل الأمهات والآباء في وطني.. أمي وأبي, رغم الصباح الملتبس, ورغم رحيل أمي وأبي, اللذان سيبقى وجههما وصوتهما في البال خريطة وطن, وصوت فرح عال يصدح في أذني: الوطن راجع, احجزي لنا بالقرب منك في الأمويين يوم الاحتفال بالنصر القريب مطرحاً.