ثقافةصحيفة البعث

“أنســـــنة” فـــي التكيـــة الحبقيـــة

ما من وقت للهدوء في غاليري “ألف نون”، الذي يدير نشاطاته الفنان التشكيلي “بديع جحجاح”، خلايا نحل تشتغل في رأس هذا الفنان المشغوف بالحبق، حتى يكاد أن يكون توقيعه الخاص، نبتة حبق في إناء قرميدي، وربما يصل به الحال أن يبرم عقود عمل بحتة، يكون عربونها الأول هو الحبق، وبما أن الشيء يبنى على مقتضاه، فلقد تحولت التكية السليمانية إلى التكية الحبقية، بعد أن اجتمع جمهور من السميعة المحاطين بأواني الحبق، لحضور أمسية موسيقية روحانية، برعاية غاليري -ألف نون-وزارة الثقافة، أحيتها فرقة “الدراويش الشامية”، بقيادة الموسيقي صلاح عربي القباني، وقدمت فيها العديد من أعمال الدروشة والمولوية، كموشح “زنجران” ووصلة “التهليلة/ تناسقت أحرف الجلالة/ وبلبل الإقبال غرد.
أمسية موسيقية صوفية بعنوان “أنسنة” في حديقة التكية، حضرها الناس بمختلف شرائحهم العمرية، والأشجار التي انحنت قليلا لتنصت لآلاء الجمال الباذخة في الأجواء وغيرها من “الزريعة” المعربشة فوق كل حجر وعمود رخام، محيلة واحدة من ليالي أيلول، إلى حلم ليلة صيف، لا كمسرحية في خاطر كاتب، بل كنبض حياة يتدفق منذ ما قبل الزمان والمكان، حتى الأبد.
يقول بديع “نحن اليوم نقدم رؤيتنا لمفهوم اسمه “انسنة”، سنغلق فيه دائرة دوران التي كنا بدأناها عام 2013، بمنظومة “دوران” تلك الحالة البديعة التي يصل إليها الدرويش في طيرانه المولوي إلى اتحاد روحه بروح العالم، وهي حالة رمزية لكون كل إنسان هو كويكب جميل يدور في هذا العالم الفسيح، حسب مفهوم الدوران المعنوي، ومن حالة هذا الدرويش الرمز، صدّرنا العديد من الرموز التي تجمع السوريين مثل “التكوين، دوران أفلا، الجوهر، المحبة، الهمزة، وغيرها من المعاني التي يمكن أن تجمع السوريين كما ذكرت، مهما كانت مشاربهم وثقافتهم”، يلتفت “جحجاح” لشأن ما، يوصي بتوزيع “الحبق” على الحضورـ قبل أن يعود ويتابع: “أنسنة”، هي عبارة عن الصوت أو الموسيقا التي تغلف الدرويش كشكل واللوحة كصوت، فعمليا نحن اليوم في فضاء التكية السليمانية -الحبقية كما أسميتها كصحفي- تجتمع العديد من الأصوات التي تشكل مع الموسيقا عوالم روحانية بديعة، عوالم محبة نحن اليوم بأمس الحاجة إليها لنلتقي ولو لمدة ساعة واحدة، واخترنا الموسيقا الصوفية اليوم باعتبارها جسرا للعبور إلى الآخر على جناح نغمة، وهذه هي وظيفة الفن اليوم، الفن المتصل، الفن الذي له علاقة بالناس، الذي يحقق اللقاء والارتقاء، الفن الذي يجمع ويلم بحميمية، صفاء القلوب ونقاء السريرة.
مرة أخرى يرد بديع السلام بود لوافدين جدد، يرشدهم لأماكنهم، ويعود ليكمل: الأمسية الموسيقية “أنسنة” ليست إلا نواتا لمشروع فرقة موسيقية أكبر، ستكون هي صوت الحبق وما يعنيه في وجدان “ألف نون”، وبالتأكيد بعد أن نكمل مفردات مشروعنا حيث ولد في دمشق، سيكون لنا حضور في محافظات أخرى.
“أنسنة” كأمسية موسيقية هي مفردة من مفردات مشروع فني متكامل، يسعى “بديع” في غاليري “ألف نون” أن يجعله مشهدا عاما من مشاهد الحياة السورية، موسيقا راقية تصدح من أمام جامع، صلاة مُنوطة يشارك فيها كل ما هو موجود في المكان، من طير وإنسان وماء وحجر ونبات، تفتتح الخريف بلوحة من لون وصوت، وأمل في غد قادم يسطع من بين زنود أبناء البلاد، يوم تمحو أشعة شمسه الساطعة، ليالي البرد والخوف والحزن إلى الأبد.
تمّام علي بركات