“كيميا”.. معادلة الثنائيات الأثيرة
في العرض الافتتاحي الذي أعد نصه المخرج والمسرحي والناقد عجاج سليم، عن نص للروسي (ألكسندر أوبرازتوف) بعنوان (مجالات)، يقترب جمهور العرض إلى ما يعنيه المجال، وفي العرض المسرحي سيصبح المجال المغناطيسي أكثر قدرة على تأويل حركة الشخصيات ومنطوقها الدلالي حول ثيمة أثيرة هي الحب، حيث تتحرك الشخصيات ضمن مسارات رؤيوية في استنطاقها لغير ثيمة تبدت في الحقل الدلالي للحب، بما يستدعي نقائضه التي برع الممثلون في محاكاتها، نص مركب بمهارة مخرج أسس موتيفاته البصرية والسردية بآن معاً، بدءاً من فضاءات محمود درويش في نصه الأشهر (على هذه الأرض ما يستحق الحياة)، وتبقى نصوص درويش التي يؤديها الفنان مأمون الفرخ «عابر السبيل»، فضاء لمحكيات النص المسرحي ودخولاً في توليفاته والصيرورات المتصلة والمنفصلة لشخوصه، والمضبوطة بإيقاع الميزانسين والخلفيات البصرية لتحضر كمكونات للعرض المسرحي، حيث الفرجة تصبح أكثر إيغالاً في مونولوجات الشخصيات وحوارياتها المتقصدة ذات الدلالة المفتوحة، هي لعبة المصائر ومفارقات المعيش، في رحلة سيكولوجية إلى ما يمكن تسميته بالإنسان المقهور حسب مصطفى حجازي ومكابدات عيشه، والأدل في هذا السياق استبطان ذهنيات ذكورية في مقابل تمرد وكبرياء الأنثى، ولا يمكن لمن تلقف العرض بشغف التأسيس إلا ويكون حاضراً بوصفه جزءاً جوهرياً منه، لا سيما وأن فضاء المتلقي هو ما يعول عليه الآن في لحظة مثاقفة الحب، والبحث في ما وراء الشخصيات، لإيجاد دال فاخر يقودنا إلى الحكاية المؤسسة والعابرة بين نصين مسرحيين مختلفين، اقتضى التحويل فيهما إلى البحث عن مشتركات رؤيوية لا تتطير إلى المطلق، بقدر ما هي ذهاب إلى نسبية الأشياء واحتمالاتها القصوى، وفي تعبيرات العلاقة المسرحية ما بين الشخوص والرؤية الإخراجية الحاكمة، يذهب العرض ليلقي غير سؤال على متلقيه، هل حدث ذلك أم سيحدث أم هو وشيك الحدوث؟.
“كيميا” في التناغم وجاذبية المجال المغناطيسي، هي كلمة السر في علاقات اجتماعية باتت أكثر وضوحاً في جعلها تحت مجهر البحث المسرحي، وفي مختبر د. عجاج سليم ستصبح الأشياء أقرب إليك، لا سيما في تأويلها وبمفتاح ذهبي (ماذا لو؟)، وهذا يعني أن العرض بكليته وفي محاكاته لجملة من المضمرات النسقية، سيأخذنا كما هو الحال من البداية إلى ما يشبه النهاية، أي في دلالة الانفتاح على المتخيل والواقع بآن معاً، ما يستدعي هنا في الراهن المسرحي أسئلة محايثة للعرض وبالقدر الذي يتيحه لمتلقيه من إمكانات التأويل والقياس، ليس بمعنى مقارنة مطلق نصين ومن ثقافتين مختلفتين، بل تفجير إمكانات المبدع المسرحي السوري ليلتقط غير لحظة عابرة في محكياته اليومية، ليصبح النص هنا خلاصة تركيبية لكل الثنائيات القارة في وجداننا الجمعي والقائمة على المفارقة الضدية، وأكثر منها على الانتباه للإمكان الجمالي الذي برع فيه المبدعون الشباب، وهو ما يحملنا على القول: ثمة عرض مثقف يحترم عقل متلقيه ولا يغادره، وإن غادر هو قاعة العرض، لا ينطوي الأمر هنا على اختبار وامتحان البديهيات والمسلمات، بقدر ما يستبطن في تلك –الفرجة- تأويله المنتج للدلالة، وما يعني في سياق الاستقبال النقدي التنوع في المغامرة المسرحية وإثرائها، برؤية مخرج مجرب يجيد تأسيس العلاقة مع جمهوره، بعيداً عن الصخب والعنف والقبح الضروس، ذلك أن جدلية العرض هي في الصراع المفتوح ما بين الإنسان وأقداره واختياراته أبداً، وأحلامه وهواجسه ورغائبه حينما تضعه الحياة وجهاً لوجه مع تلك الأقدار، ومصادفاتها/الضرورة، حينما يبحث عن الخلاص الممكن في لجة الصراع والتناقض، وبهذا المعنى يحضر زخم درامي يحيلنا إلى استئناف العرض في تعبيراته الأكثر قدرة على اشتقاق الأسئلة.
أحمد علي هلال