“البقعة الصفراء”.. التكوين والمعايشة الجمالية في الفن
الكاريكاتور كما هو معلوم، يحتوي نسيجاً متكاملاً من بُنى شكلية تتكئ على معين الوقائع والأحداث في رؤى مختلفة، وهذا يؤكد أن بعض فناني الكاريكاتور يتمتعون بحس ابتكاري متسع على كل الاحتمالات في اختزال الواقع بتعبير شجاع مادام يعبّر عن موقف. وهذا لا ينفي أيضاً خصوصية الوصف في طرح الممكن واستعارة كل الإيماءات بكل تجلياتها، حالمة كانت أم متأملة.
بعد هذا التوصيف، يأخذنا الفنان رائد خليل في كتابه الجديد المعنون “البقعة الصفراء” إلى تأملاته الجديدة الملونة من فتنة التكوين إلى المعايشة الجمالية في الفن.. كتاب يشتغل الفنان فيه على المحاكاة والمحاكمة على المستويين الذاتي أولاً، والمؤثر الخارجي بكل تداعياته وعبثه ثانياً، فالمنطق الجمالي الواقعي أو بعضه يتجلى بصدقيةِ التوصيف الدقيق لمضامين الحياة وواقعيته.
عناوين فلسفلية بعيدة عن المتداول في طرح مصطلحات بأسلوب عميق لا يخلو من التنظير في كثير من الأحيان، بدءاً من مفهوم البنية الذهنية في الفن إلى الاستاطيقا والولوج في مرجعية الاصطلاحات وحمولاتها التي بقيت حبيسة الرهانات على قدرة النظرة التقليدية، وهذا ما جعل السيميائيين بحسب الكاتب ينبشون خفايا السمات ويستنبطون القول السردي ضمن بناء منطقي.
ويؤكد الكاتب في رسائله الفنية ارتباط الفنون عادة بعلامات تتقاطع في مشتركات لفظية.. ولكنْ تختلف توصيفات القراءة بحسب الخصائص، وترتيب العناصر وأبحاثها بعيداً عن ترادفية المعنى المشترك.
عناوين مخصبة وموزونة تؤكد شجاعة المفردات الفنية، وهنا، تظهر صراحة الفنان في تسليط الضوء على المناسبة والغرض المبني على الوصال مع النفس أو المجتمع أولاً، ومن نافذة إعادة الاعتبار للجمال على مبدأ فلسفي يقول بإنتاج جديد للمرئي الذي أفقده بعضهم أهم عناوينه ومن ثم مضامينه في التجريب والخلق ومن دون تعشيق عمدي قد يسقط هيبة القول الأصيل.
ويأتي التشخيص في أغلب الرسوم التي تزين صفحات الكتاب كمتعة مؤنسة، يواكبها انزياح الصور برغبة تدخل القارئ المتلقي في أروقة البيان، والبحث عن سياقات رمزية يشعل فيها همّة القول بأناه المتجددة في كل عمل مذيّل بالغواية، حيث يطوف بها في مدار الحلم والتجلّي وخوابي الاستمتاع.
إذن، رسائل متعددة.. تأخذنا الحالات الإنسانية الوجدانية فيها إلى أماكن لم نبصرها من قبل، وإذا كانت غاية فن الكاريكاتور تنويرية بحسب الكاتب، فإن النشوة الحقيقية عندما تأخذنا اللحظة (الومضة) إلى سراديب التفكير المكثف، أو حالة انبهار في تشكيل العمل وتوليفه. وهنا، يتساءل بعضهم عن مدى تأثير رسالة فن الكاريكاتور والاستجابة لها. ورغم أهمية الاشتغال التقني من خطوط وانعكاسات لونية وتوزيع موزون لعناصر العمل على المساحة المخصصة له، تبقى الاستجابة للمكونات الشكلية أولاً، ومن ثم التوصيف الفعلي للقضية المراد إيصالها فعلاً ذاتياً يُبنى على أساس القراءة الواعية المتعددة الاحتمالات في شحذ البصيرة وتطعيم الرؤية باستعارات وشواهد معرفية عميقة الدلالات، وطافحة بالعين الذاتية المنحازة دائماً إلى التجديد.
ومن العناوين اللافتة في الكتاب: أنطولوجيا المعنى الفني الذي يشكل رافعة حقيقة لعصارة القول في سرديات الحالة الفنية التي تتناغم ومساحات المضامين التي هي المناسبة، وإحياء اللازمة في مغامرة استدلال على حافات الترقب التي تأخذنا إلى ماهية الذات الحرة، أو ربما إلى القول المنصهر في مرجل اللحظة القابضة على جمر اليقين، فيستدعي المتخيل إلى واحة الدراية والانتقاء والاصطفاء دون تدوير واستطالة، إلا في إطار حالات تتسمّر فيها كثافة الحالة المدركة بمنبعها الواقعي عند حدود “الزمكان”.
وفي قراءة العنوان(البقعة الصفراء) التي قالها “بيكاسو” عن الرسامين الذين يحوّلون الشمس إلى بقعة صفراء، وبعضهم الآخر يحوّل البقعة الصفراء إلى شمس.. هنا، سيدرك القارئ جوهر التنافس الصاخب بين الروحي والمادي.
وكثيراً ما تبنى حالات التأثر والتأثير على عامل السلف، وتخطّ نظريات الحداثة بناء عليها، ولا تخلو من الوجدانية واستمالة القراءة العاطفية، وهنا، تلعب جغرافيا القارئ والفنان معاً الأثر البليغ في ترجمة النص سيكولوجياً واجتماعياً أولاً، ثم الانطباع الملطخ بالانفعالات.
إن كمّاً من رموز ومحددات إشارية مهمة تزخر فيها اللوحات الكاريكاتورية التي تزين الكتاب في حوارية مفتوحة على جهات التعبير الكاريكاتوري، وقد تشكّل تلك الرموز المتداعية عملية جمعية تتجاوز حدود اللوحة الشــكلية وإطارها، وقد تأخذ منحىً خطابيّاً واقعيّاً أو ميتافيزيقيّاً.
إنّ قدرة المتابع أو القارئ على الكشف والتحليل وحتى التأويل، ما هي إلا مساءلة مخفية ومواجهة صريحة مع نقيضين إشكاليين في فن الكاريكاتور، هما: المخفي والمرئي.
الكتاب صادر عن دار دلمون الجديدة في دمشق 2019 ويقع في 122 صفحة من القطع الكبير
المحرر الثقافي