تجليات الترف في بنية القصيدة الأندلسية
عدا عن القصور الفخمة والحدائق الغناء الساحرة، وغير الأبهة والعظمة التي كانت ترفل فيها الأندلس -فردوسنا الدامي-، يجيء الأدب العربي الأندلسي، أيضا ليكون من المفردات الأهم لذلك العصر الذي ازدهر به الفكر العربي، وبالطبع سيكون الشعر “ديوان العرب”، هو الحامل الأهم لسمات ذلك الوقت، ومن القصائد الكثيرة التي تركها شعراء كبار، توصل الكثير من الباحثين في تفاصيل الحياة الأندلسية، تلك التي حملها الشعر بين جنباته، ليكون بمسابقة وثيقة لا تبلى، على بديع ما جادت به اليد العربية في بلاد “الفرنجة”، إلى الكثير من الأجوبة التي لفها شيء من الغموض وشابها ما يشوب المنقول والمنسوخ عادة، ولسوف تحمل تلك القصائد بما جاء فيها، وصفا دقيقا لا تحققه الدراسات القائمة على تتبع المنجز العمراني والفني الباذخ، لمعرفة حياة الأندلسيين وطبيعة تلك العوالم المسحورة، والتي لا تزال حتى اليوم، تشكل جزء مهما من الوعي الفكري العربي، الذي نما أحد اغصانه وأورق في زمن مملكة الأحلام ذاك، نما من الجذر ذاته، لكنه اختط لنفسه فضاء رحبا من ديوان العرب، وما تركه الأجداد من إرث ثقيل الوجد من هذا الأدب، الذي عكس حيوات وتفاصيل ذاك العصر، خصوصا في القرن الخامس الهجري، الذي يمثل الذروة على مستوى النشاط الثقافي في الأندلس، حيث نهضت العلوم والآداب،نهضة بلغت أقصى درجات الازدهار في تاريخ الأندلس العربي، على الرغم مما شهدته بلاد الأندلس في هذا القرن، من تفكك وانحلال سياسي واجتماعي شامل.
واحدة من الدراسات الشيقة في الأدب الأندلسي، جاءت متنوعة في كتاب “تجليات الترف في بنية القصيدة الأندلسية، عصر ملوك الطوائف”، لمؤلفته “أماني أحمد عيد طه”، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، فقد كانت الأندلس دار خصب وغنى، وموطن حضارة ولهو وجمال، فانصرف أهلها إلى متع الحياة، يغرفون منها لما لها من تأثير قوي في دواخلهم وحياتهم الخاصة والعامة.
الدافع الذي توقد كجمرة صغيرة في بداية الأمر، بدت جذوته تأخذ بالاشتعال، فكان لا بد في هذه الدراسة، للإجابة عن عدة أسئلة حاسمة، منها: الإجابة عن تساؤل يتبدى في كيفية تأثر الأندلسيين بمظاهر الترف، وإلى أي مدى استطاعوا تمثل بيئتهم والتفاعل معها، وكيف استطاع شعراء تلك الحقبة، نقل تلك الحياة بشعر حيّ يعكس مزاجهم النفسي ومدى ارتباطهم بحضارة راقية وحافلة بما فيها من بذخ وترف، ومنها أيضا حسب المؤلفة، الرغبة في قراءة شعراء الأندلسيين قراءة ذات بعد قد يبدو جديدا، فالشعراء قد يكونون من تناول تلك الحالة في ظل البيئة التي خرجوا منها، وذلك لتمتعهم بمزايا ذوقية تؤهلهم أن يكونوا أرهف حساً من سواهم من الشعراء العرب في البلاد العربية، وبيئتها المتنوعة حتى بقسوة الطبيعة نفسها وما لهذه القسوة من حضور كثيف في نتاجهم الأدبي، عدا عن الرغبة في وضع دراسة متكاملة تتناول حياة الترف التي عاشها العربي في الأندلس، بعد أن تمت الإشارة للثيمة ذاتها في مواطن عدة، لكنها لم تذهب أبعد في قراءة هذا النتاج، أسبابه، عمره، منشئه النفسي، تجلياته الحياتية، والتي تم التعامل معها عموما، على كونها ظاهرة اجتماعية، وهذا كان من الدوافع الأهم الذي أمسك بيد “أماني” وقادها في تلك الدروب البديعة، التي خطت عليها مع كل بيت شعر أندلسي قرأته، لأنها قامت بوضع محددات لبحثها، تحديد موضوع الدراسة، وهو دراسة وتحليل محدد كما اسلفنا من الناحية الفنية بالشعر الأندلسي لا في نثره، كما أنه محدد من جهة المضمون الاجتماعي بموضوع الترف، عدا عن كونه محددا زمنيا بالحقبة الزمنية في عصر ملوك الطوائف.
اقتضت طبيعة البحث جعله في أربعة فصول بعد تمهيد يسبقه ولمحة عن الحياة الفكرية والاجتماعية في عصر ملوك الطوائف؛ فالفصل الأول جاء للحديث عن مظاهر الترف في موضوعات الشعر الأندلسية، بداية بالموضوع الاقتصادي فالاجتماعي والثقافي والتعليمي، وصولا إلى نظم الإدارة والعسكرية.
الفصل الثاني تم تخصيصه للحديث عن مظاهر الترف في أغراض الشعر من مدح وفخر وتذمر واستعطاف وغزل وخمريات ورثاء وزهد ووصف للطبيعة.
تناول الفصل الثالث أثر الترف على الموسيقا والغناء، وفيه وصف للمغنين والمغنيات، ثم الآلات الموسيقية والربيط بين الغناء والخمر، الغناء والرقص، وما نتج عن ذلك من ظهور لفن جديد حينها وهو فن الموشحات الأندلسية الشهير.
الحديث عن الخصائص الأسلوبية لقصيدة الترف، من حيث الألفاظ والتراكيب والصور الشعرية، والايقاع العروضي مع إيقاع الألفاظ من جناس وطباق وتكرار.
عموما بينت هذه الدراسة أثر الجو العام في الفن الشعري والأسباب التي جعلته يتصدر المشهد الأدبي في الأندلس، والبيئة التي خرج منها أولئك الشعراء الذين غرقوا في أجواء الترف، ومنها خرجوا بنتاج شعري غزير، يُبرز مظاهر هذا الترف وعوالمه الفخمة.
“تجليات الترف في بنية القصيدة الأندلسية”، من الكتب الممتعة، نظرا لخوضه في واحدة من أهم ميزات زمن الفردوس المفقود، عدا عن كونه دراسة منهجية وعلمية لإظهار هذا الجانب في القصيدة الأندلسية وشعرائها، ويمكن اعتباره مرجعا في هذا الشأن، وهذا المرجع استقى العديد من أهم أفكاره مما يربو على المئة مرجع مُحكم في التاريخ، لتجيء هذه الدراسة غنية بالشواهد الفنية والشعرية البديعة، والاستنتاجات التي خرجت بها الباحثة في هذا الشأن، بعد أن أجرت مراجعة شبه شاملة لكل ما يخدم فكرتها ويوضحها، قبل أن تقوم بجعله كتابا يستحق الوقوف في المكتبة المنزلية، لأسباب عديدة، منها المتعة والفائدة والدهشة التي يقدمها للقارئ على ورق من فضة.
تمّام علي بركات