شو بخاف ضيعك
سلوى عباس
عندما صارحها بحبه تغير لون العالم بالنسبة إليه، وأصبحت هي من تهدهد روحه من أوجاعها، وتمنح الضوء لصباحاته.. هي من تحمل أحلامه، وتمنح الحياة بركتها فتنشر في قلبه ودادها والهيام، فمنحها أوقاته وعمره، فرحه وحزنه، نوازعه واستقامته، مزاجه المربك واستكاناته الوديعة.. كانت من تلملم أجزاءه وقت انفجاراته، ومن يلتجئ إليها في ملماته وانكساراته.. كانت هي التي تلون الصباحات الزرقاء بالمطر، وتبث حبها فيه كل صباح فيسقى كما الفولاذ
هي كانت سعيدة بهذا الحب، وحلقت في دنيا الأحلام، ملاك لا يرقى له البشر، وفي لحظة من ضبابية العمر فاجأها قائلا: لا يضيرنك كثيراً أن رسمت لوناً أرضياً في لوحة هي فضاء فردوسك الزاهي، فللسماء زرقة مشوبة بحمرة التراب، ولأزهار الجنة ملمس خديك، منسوجة أنت من سماء وأرض، من هواء وماء، ما أحببتك يوما كخيال، ولا لامست يدك على أنها أصابع ممدودة من حلم “رغم أنها تحاكي الحلم”.. أنت منّا نحن البشر، فيك لحم كلحمنا، ودم كدمنا، وروح متواثبة تخلخل فضاءاتنا، وتربك النبض في قلبنا.. أنت لست ملاكاً، فأنا لا أؤمن بالملائكة، هم كائنات من ضياء كما قالوا ليس فيها حرارة الوداد، وليس لها أن تفرح، أو تغضب، ولا أن تضفي على اللحظة مسحة من حزنها الشفيف.. ليست ناعمة كظاهر كفك، وليست دافئة كباطنها.. مالنا وما للملائكة، أنت التي أودعتها قلبي، ورهنت روحي بين ذراعيها حتى يحين الأجل..
> > >
بسبب الحرب التي طال أمدها تعددت وسائل النقل ولم يعد للبولمانات هذه الضرورة بالنسبة للمسافرين، لكن منذ أيام قصدت مركز انطلاق البولمانات الجديد ليس بغاية السفر، بل لوداع صديقة كانت في زيارة لدمشق، فكانت فرصة أن أراقب ما يجري بهدوء، حيث الضجيج والازدحام يلّف المكان، فتختلط أصوات المنظمين للرحلات، مع أصوات مروجي وسماسرة الشركات التي تتنافس فيما بينهما للحصول على راكب، فيستعرضون ميزات شركاتهم التي لم تبق أية شركة تحتفظ ولو بجزء من هذه المزايا، لكن هي المصالح التي تدفع كل شركة لتبييض صفحتها، وتلميع سمعتها لتسيير أمورها، والمتورط الأكبر هم المسافرون الذين تلمع لهفة الشوق في عيونهم لأهاليهم وأصدقائهم، وموطن طفولتهم كل في محافظته، وانشغالهم بتوضيب أمتعتهم التي لفت نظري كثيراً اصطحاب كل مسافر لعدد من الحقائب المتخمة بالأغراض والحاجيات التي ربما يحتاجون إليها وربما لا، وعلى ما يبدو أن الناس اعتادوا إرهاق أنفسهم وتحملهم لمشاق السفر بكل حالاتها.
سألت نفسي: هل نأت المسافات بيننا وبين أهالينا وأوطاننا أن نحمل كل هذه الأمتعة، لسفرة قد لا تطول لأكثر من أيام ثلاثة، والأصح هل أخذتنا الحياة من أنفسنا لدرجة أصبحنا فيها نسافر إلى قرانا وبلداتنا كل حين وحين. هنا الغربة التي نعيشها في أوطاننا، ومع أقرب الناس إلينا.. إنها لمفارقة أخذت في ظروفنا الراهنة ملمحاً آخر لم نعهده ولن نعتاده.
تحركت الحافلة قليلاً وتحركت القلوب كثيراً، وبعد أن صعدت صديقتي واطمأنيت عليها، رحت أرقب ملامح المودعين لمسافريهم الذين أرفقوهم قلوبهم بينما ظلهم يتوارى عن حافة عيونهم ويتكاثف الضباب، والأمكنة كلها بدت ملتفتة إلى مفرق ينكسر عليه الضوء في انعطافة الرحيل، والمسافة تكبر بينهم وبين أحبائهم الذين ابتعدوا في الأفق كسهم من ورق، فتعلو موسيقا القلب ويقلع البال في انشغالاته وينفجر القلق على أشده مرة واحدة، ولا يوقف الصدر استضاقاته بالمفاجآت ولا تهدأ العين عن تكرار مشهد الرحيل. هذه أصبحت حالنا في ظروف أصبح الحنين إلى مدننا وأهلنا مشوباً بالخوف الذي كلما حاولنا الإفلات منه زادت حباله تشابكاً حول أرواحنا. لا أدري إلى متى سنبقى خائفين وقلقين على أحبتنا وأصدقائنا في حال ابتعدوا عنا ولو لخطوة في أي اتجاه لا نكون معهم فيه.