عند التقاعد خيارات عديدة للهروب من المشكلات النفسية والجسدية
رغم أن مجتمعنا يغص بمشكلات الشباب، إلا أن واجبنا يحتم علينا تسليط الضوء على مشاكل الفئة التي كان لها أكبر التضحية في سبيل إعداد هذا الجيل الشاب، إنهم شباب الأمس ومناضلو الماضي القريب “المتقاعدون”، فالحياة رحلة قصيرة مهما ظنناها طويلة، فهي تدور على الجميع، ويتبادل الركاب المقاعد في بداية كل محطة، ومهما تأخروا فالرحلة ستتابع لا مفر، إن التقاعد حق لكل موظف مهما كان العمل يحقق له ذاته، وطموحاته، ولكن كل موظف سيتخوف عاجلاً أم آجلاً حول مصيره بعد إحالته على التقاعد، وأخطر تلك المخاوف هو أنه سيبدأ بالشيخوخة ومظاهرها من مرض، وهرم، والوصول في بعض الأحيان لحد الوسواس القهري، والتفكير بالموت.
تأثير متفاوت
إن ردة الفعل عند التقاعد تختلف من شخص لآخر تبعاً لخصائص شخصيته، وفقاً لما أكدته للبعث الدكتورة منى كشيك، كلية التربية، جامعة دمشق، فمنهم من يتقبّلون التقاعد على أنه من سنن الحياة التي لا هروب منها، والتي يجب التسليم لها، والتكيف معها، وتلافي سلبياتها من خلال إيجاد عوامل أخرى تبرهن على مدى قدرة الإنسان على إثبات نفسه، وتأكيد شبابه، وتميزه في مجالات الحياة، وتحقيق الفائدة من وجوده على مدار الوقت، وفي سياق متصل هناك أيضاً من يجد في التقاعد فرصة للراحة، والاسترخاء بعد رحلة عملهم الشاقة طوال شبابهم المليء بالكد والسهر، إضافة لمهامهم الأسرية كتربية الأبناء، وفي المقابل هناك آخرون يرفضون فكرة الراحة، أو الرخاء، ويرفضون التأقلم مع واقعهم، وخاصة إذا كانوا يحبون العمل كغاية في الحياة، فتجد معظمهم يسارعون لإيجاد عمل آخر، بل منهم من يرفض الواقع برمته، ولا يتكيف مع التقاعد نهائياً، أو حتى مع الآخرين في وسطهم الاجتماعي، فيذوب البعض منهم في سياسة جلد الذات، وكرهها دون سبب، ولا يشعرون بطعم الحياة بعد تقاعدهم مهما توفرت لهم أسباب السعادة، وتختلف ردود الفعل بين المتقاعدين بحسب مستواهم العلمي، والثقافي، ومناصبهم الوظيفية السابقة، حيث نجد تناسباً عكسياً بينها وبين آثار التقاعد، فعلى سبيل المثال كلما وصل الموظف إلى مكانة عالية في مهنته عانى من آثار سلبية أكبر بعد تقاعده، كما تختلف الآثار بحسب طبيعة المهنة فيما إذا كانت سهلة، ومحببة للمتقاعد، أو كان مجبراً عليها، أو صعبة، وبحسب انخفاض الراتب بعد التقاعد، وبحسب نوعية الزملاء، فإذا كانوا جيدين وكان المتقاعد متعلقاً بهم فإنه سيعاني عند تركهم، وسيشعر بالوحدة والفراغ.
عوامل مفاقمة
وتابعت الدكتورة “كشيك”: إن الإنسان مع التقدم بالعمر يمر بتقلبات كثيرة في الحالة النفسية، والتي قد يزيد التقاعد من حدتها كونهما يتزامنان معاً، فمن المتغيرات النفسية لكبار السن يلاحظ التمركز حول الذات، وشبه الانقطاع عن المجتمع، وهذا يسبب الإحساس بفقدان أهميتهم، كما يشعر بأن المجتمع قد حكم عليه بعدم الصلاحية، وعليه انتظار المجهول دون هدف، ما يجعل بعضهم يصاب بـ “عقدة الشيخوخة” التي تجعل المتقاعد يعيش في دوامة القلق على وضعه الاقتصادي، وعلى أسرته، وعلى صحته، وتزداد لديه العزلة، والانغماس في تذكر الماضي الجميل بما فيه من نشاط، ونجاح، وكذلك يبدو عليه العناد، وصلابة الرأي، وقد يصاب المتقاعد بالمرض النفسي نتيجة صدمة التقاعد، خاصة إذا ما تزامن ذلك مع أحداث أخرى قاسية كموت شريك الحياة، أو الأصدقاء، أو الأزمات الاقتصادية، أو فرضت عليه حياته الجديدة بعد التقاعد أسلوباً جديداً من السلوك لا يجد في نفسه المرونة الكافية لسرعة التوافق معه، أو أشعره من حوله أنه قد أصبح لا فائدة منه، وغالباً ما يظهر على هذا النوع من المتقاعدين شكل الترهل، والذبول، والعصبية الزائدة، ولابد من الإشارة إلى أن أعراض سن التقاعد تشاهد في المدينة أكثر منها لدى الريف.
الحد من تأثيراته
وأكدت الدكتورة كشيك أن المتقاعدين الذين يعملون بعد سن التقاعد حتى ولو بعمل بسيط، أو جزئي، أو حتى خيري، هم أفضل حالاً من غيرهم، وأقل عرضة للإصابة بالأمراض، وعلى رأسها الزهايمر، ومن أكثر المتقاعدين تعرّضاً لاكتئاب الشيخوخة هؤلاء الذين عاشوا حياة هادئة منضبطة ومنسجمة في جميع نواحي الحياة، ولم يعتادوا تجاوز المحن، والمشكلات الكبيرة في شبابهم، أيضاً الأفراد الذين يرون أن التقاعد جاء في الوقت المناسب هم أكثر شعوراً بالرضى من الأفراد الذين يرون أنهم مازالوا يرغبون الاستمرار في العمل، والمنزل ليس مكانهم، كما أن هناك موظفين قد رسموا أفكاراً سابقة حول تقاعدهم، ومصيرهم، وهم أقل تأثراً من غيرهم، كما أن النظرة الإيجابية للأسرة، والمجتمع، والأفراد الذين كان سبباً في نجاحهم سابقاً، ستساهم بشكل فعال في التخفيف من الآثار المترتبة على التقاعد، ويجب على المتقاعد اختيار أفضل وسيلة لاستغلال الوقت كممارسة هواية ما، أو ممارسة أي نشاط فكري، كما أن لمكان العمل السابق دوراً هاماً في امتصاص صدمة التقاعد، والتخفيف من وطأتها من خلال إعفاء الموظف من عدد تدريجي من ساعات العمل قبل تقاعده بفترة زمنية معينة، وتكريمه عند تقاعده، وبعده، واستدعائه لأخذ مشورته، والاستفادة من خبراته بين الحين والآخر.
نهاية العمر
على الجميع الإيمان بأن التقاعد ليس نهاية العمر الافتراضي للإنسان، أو قدرته على العطاء، أو نبذه من ساحة وظيفته السابقة، أو حتى المجتمع، وبالمقابل يجب العمل من قبل الجهات المعنية على تأسيس جمعيات أهلية تساعد المتقاعد في تلقي صدمته، وإعانته نفسياً، وتحقيق تكيفه مع هذه المرحلة الصعبة، واستغلاله في بعض المهارات، والأعمال التي من الممكن أن يقوم بها.
بشار محي الدين المحمد