الغواصة.. بخير جدا
ستكون الدهشة تلك التي ترسم ابتسامة عريضة على الوجه هي أول ما يصيب كسهم من ورد الداخل إلى “الغواصة”، الاسم الذي يطلقه أصدقاء الشاعر والفنان التشكيلي “منذر مصري” على مشغله، ولدقة أعلى من “بكسل” عدسات الكاميرات الحديثة، على المكان الذي قضى فيه جل حياته، أما سبب تلك الدهشة، فهو عودة المكان إلى ما كان عليه بشكل إعجازي، بعد أن تناوبت ألسنة اللهب منذ مدة على حرقه، ومن غير اللائق أن تسأل صاحب “رسائل شاقة” كيف استطعت ذلك، فالمكان وما فيه من حصاد عشرات السنين لكتب واسطوانات نادرة ولوحات وتحف وغيرها مما كانت مكتظة فيه عاد إلى ما كان عليه وفق ترتيب ذاكرة منذر له، وكأنها خرجت من باله كصورة، ثم استوى كل شيء في مكانه الذي فيه، حيث ألف منذ وقت طويل، وربما ذاكرة الأشياء، هي من أعانت مبدع “مزهرية على هيئة قبضة يد”، -المجموعة الشعرية التي اعتبرها كناقد وقارئ هي الأجمل والأهم ولن يسره هذا الكلام طبعا- على المعجزة الصغيرة التي ابتدعها في ذاك المكان الهارب من الزمن، والذي أصبح رمادا بسبب ماس كهربائي، وها هو اليوم حديقة صداقة وأدب وفن يانعة، ومشغل شاعر وفنان سوري من الطراز النادر، ثقافة ونتاجا وإنسانية.
يضحك أبو شكيب وهو يحكي عن أسطوانة موسيقية نادرة عزيزة على قلبه احترقت، لكنك قادر على لمس الغصة التي تجمعت في روحه على شكل غيمة، وهو يذهب في الحديث عن مضمونها من أغان لفنانين عالميين منهم “بوب ديلان” الذي نال جائزة نوبل منذ مدة قريبة، أو غيره.
روح محمد سيدة ومرام مصري ورياض حسين الصالح وكثر من الشعراء والفنانين الموجود منهم والمتواري خلف حجاب، حاضرة في المكان، ولن تكفي كل فناجين القهوة والشاي الجميع، لكن هذا آخر ما يهم صاحب “الشاي ليس بطيئا”، لأنه كساحر سُيخرج بعد قليل من أصابعه عشرات الفناجين الطائرة وصحونها في المكان لتهبط أمام من تنقصهم في الغياب، قبل أن تصطدم بكل الفرح المنفلت بالأجواء، المنبعث من الغواصة، المكان الذي كان ميتا فأحياه.
من مجموعته الشعرية الصادرة عن دار الريس “مزهرية على هيئة قبضة يد” اخترنا التالي:
“لا تتكلم هكذا حماقات عن الناس/ ماذا أنت لولا الناس/ ضع هذا الكلام الذي أقوله لك الآن كحشرة طنانة في أذنك الوسطى/ أنت لا شيء لولا الناس/ هم من غسلوك بماء دافئ وغطسوك وكانوا يستطيعون باللحظة التي بها ولدت تغطيسك بالماء المثلج وخنقك/هم من علموك كيف بلسانك وسقف حلقك وشفتيك يخرج الهواء من فمك أحرفاً وكلمات/هم من لقنوك الأسماء ثم نادوك باسمك فصرت تعرف من أنت/أخبرني الحلاج أنه عندما مات أدخله الله الجنة فوجدها خالية من الناس/ماذا أفعل هنا وحدي قال في سره/فقفز عن سورها وهرب إلى جهنم لأنها مليئة بالناس.
تمّام علي بركات