تقدّم الجيواستراتيجيا وتراجع الجيوبولتيك
د. مهدي دخل الله
المخاض الذي يشهده العالم اليوم باتجاه ولادة نظام عالمي جديد، رباعي القطب، يستند إلى ظاهرة كانت قد انتهت مع أفول الامبراطورية العالمية البريطانية أوائل القرن العشرين..
كان أنموذج الهيمنة البريطانية يستند إلى أولوية الجيواستراتيجيا في العلاقات الدولية، وفي محور هذه الجيواستراتيجيا يحتل الاقتصاد المكانة المؤثّرة الأولى بلا منازع. العناصر الغنية للجيواستراتيجيا هي مصادر الطاقة والخامات الاستراتيجية، تأتي بعدها البحار “الدافئة” ومداخلها ومضائقها، أما العنصر الثالث فهو الهيمنة المباشرة خارج مفاهيم الاستقلال..
أخضعت بريطانيا الجيوبولتيك لهذه الاعتبارات الجيواستراتيجية. لكن ظهور النجم الأمريكي في سماء العلاقات الدولية أدى إلى تراجع الجيواستراتيجيا وخضوعها للجيوبولتيك..
يشمل الجيوبولتيك عناصر من أهمها التصور السياسي، أي الفكري والإيديولوجي للجغرافيا العالمية، وكذلك الهيمنة غير المباشرة مع الاحترام الصوري (الشكلي) لاستقلال الدول بما فيها تلك التي لديها درجة من التبعية تصل حد العبودية، كما يحدد أهمية موقع بلد ما، لا استناداً إلى ثرواته، وإنما إلى موقعه في الخارطة الجيوسياسية العامة للعالم.
هكذا فقد رأس الرجاء الصالح – مثلاً- أهميته في سياسات الاستعمار الجديد لأن ليس له دور جيوسياسي على الرغم من أهميته الجيواستراتيجية… مثال آخر: اكتسبت النرويج في خارطة الاهتمام العالمي موقعاً مهماً بسبب خصائصها الجيوسياسية (الفيوردات الشهيرة)..
بدأت بوادر العودة إلى الجيواستراتيجيا وتقليص الاهتمام بالجيوبولتيك مع الرئيس ريتشارد نيكسون الذي حاول أن يبني “حلفاً جيواستراتيجياً” مع الاتحاد السوفييتي والصين لعزل أوروبا، ثم حصل الانقطاع الشهير في هذا المنحى مع انهيار الاتحاد السوفييتي وسيطرة القطب الأوحد.
حاول جورج بوش الابن إحياء النيكسونية “المعادية” لأوروبا عبر الضغط على بريطانيا للانسحاب من الاتحاد الأوروبي والارتباط بغرب الأطلسي. لكنه كان مشغولاً بتنظيم القضايا السياسية الآنية الطارئة لتمتين أعمدة نظام القطب الواحد.
كان التحول التاريخي نحو الجيواستراتيجيا بانتظار رئيس جمهوري قوي وفظ اسمه دونالد ترامب مع بيئة دولية مناسبة لا تنشغل فيها أمريكا بتنظيم أنموذج غير مستقر اسمه نظام القطب الواحد.
مع ترامب بدأ الجيوبولتيك يخضع للجيواستراتيجيا. احتلت قناة السويس وباب المندب وهرمز وجبل طارق والمحيط الهادي أهمية متميزة في نظرية ترامب الجمهورية التقليدية، وأخذ البعد الاقتصادي الاهتمام المحوري في هذه النظرية، حيث ضرب ترامب بعرض الحائط أحلاف أمريكا “المقدسة” السياسية والإيديولوجية مع أوروبا. هناك دليلان قويان على ذلك، انسحابه دون أوروبا من الاتفاق النووي، وانسحابه من اتفاقية الصواريخ متوسطة المدى، وهو انسحاب ترك أوروبا دون غطاء أمني. أضف إلى هذين الدليلين دلائل أخرى مثل انسحابه من اتفاقية البيئة، إزعاجاً لأوروبا، ودفعه بريطانيا دفعاً للخروج من الاتحاد الأوروبي، واهتمامه القوي بالأنظمة الاستبدادية التابعة في الشرق الأوسط (خاصة السعودية وقطر والمغرب)..
أخذت الطاقة وهي عنصر جيو استراتيجي مهم، تحتل الأولوية من جديد بعد تراجعها منذ ذهاب الرئيس نيكسون. أضيف إلى هذه الطاقة أمر جديد، وهو الطاقة الشمسية التي تتمتع بها أرضنا العربية، وتشكّل حزاماً غنياً قريباً جداً من أوروبا… وقد بدأ الصراع على هذه الطاقة منذ الآن.
الدرس المستفاد من هذا كله: أن نستخدم المنهج الجيواستراتيجي في تحليل عملية ولادة العالم الجديد، رباعي القطب، وأن نضع المنهج الجيوسياسي في الدرجة الثانية بعد أن سيطر طويلاً على طريقة التفكير في هذا العالم.
mahdidakhlala@gmail.com