بولتون.. مجرد فصل عابر
الأهم من “شطب” بولتون هو معرفة من سيكون المستشار الرابع لترامب في قضايا الأمن القومي حتى الآن، ذلك أن ترامب سيبقى ترامب، وسوف يجد من هو أسوأ من بولتون ليحلّ محله، وكل ما هنالك أن “الأخير” هو الأخير في مسلسل الاستقالات التي باتت شبه يومية وسط فريق الرئيس الذي لم يستنفد كامل ولايته الأولى بعد.
كان بولتون، الذي دخل الإدارة الأمريكية في الربيع الماضي، واحداً من كثيرين ممن تركوا مناصبهم، وقد نجح خلال تسعة أشهر من تقلّده مهامه في تقويض قمة هانوي بين ترامب والزعيم الكوري الديموقراطي، ودفع باتجاه توجيه ضربات جوية ضد إيران، واستعجل الانقلاب الفاشل على الحكومة الشرعية في فنزويلا، وفخخ انسحاب القوات الأمريكية من سورية، وطالب بحرب مفتوحة لا نهاية لها في أفغانستان.. إنه آخر حثالات الريغانية التدخلية، والابن الخائب والمحبط للحرب على العراق ويوغسلافيا ونهاية الحرب الباردة. كان يعتقد بمبدأ التدخل العسكري الأمريكي في الخارج، ويؤمن بعودة الولايات المتحدة الأمريكية للعب دور الشرطي العالمي؛ وكما كل بيروقراطية واشنطن السياسية، الهاوية والجاهلة والأميّة، والمأخوذة بأوهام العظمة الأمريكية المتآكلة، كان على قناعة خالصة بأن قدراته التكتيكية في توجيه مضامين وجداول أعمال الاجتماعات الرئاسية، وجلده الدؤوب، وصبره الحديدي على الطاولة البيضاوية، وقناعته التامة بمحدودية ذكاء وخبرة رئيسه، سوف تقوده مجتمعة إلى تحقيق حلمه!.
ولكن، وسواء أكان ترامب قد بادر إلى إقالة كبير صقوره “المثير للاشمئزاز” – حسب تعبير “الإمعة” بومبيو – عبر تغريدة ليلية مقتضبة، أم أن طلب الاستقالة كان متضمّناً في “جملتين” مقتضبتين على مكتبه منذ الصباح الباكر، فإن “عرّاب الحروب” لن “يغلق” القائمة، فالأزمة في حقيقتها لاتزال ماثلة، وما شهدناه لا يعدو كونه فصلاً عابراً من تراجيديا متوحشّة ومديدة، عنوانها التخبّط الأمريكي في عالم ما بعد انتهاء الأحادية القطبية، ذلك أن الإدارة الحالية، التي جاءت محمّلة على موجة اليمين الشعبوي الرجعي، تثير شكوكاً متواصلة، ومتزايدة، من خلال العمل بعيداً عن أي منهج للتراكم، والتخلي عن الأساليب والطرق السياسية والدبلوماسية المتعارف عليها، في بناء إنجازات ثابتة ومؤكّدة، ووفق أولويات، وعلى مراحل زمنية، لكي تعتمد مبدأ الصفقات السريعة، و”على الواقف”، وبكل ما يمكن أن ينطوي عليه ذلك من قصر نظر، وضعف ارتباط بالحقائق على الأرض، ومن احتمالات تراجع، وما يمكن أن يتصف به ذلك من ميل إلى الزهو والغرور والاستسهال والغرق في النزعة الارتجالية، ومن ثم اللعب على الانقسامات لتمرير مبادرات وحلول غير واقعية وغير جدية، وتفتقد للقدرة على الاستمرارية.
ليس دقيقاً أنه كان هناك “خلاف شديد مع بولتون في العديد من مقترحاته” – كما حرص ترامب على التأكيد في تغريدته، ولن تشكّل مغادرة بولتون منعطفاً في سياسة ترامب الخارجية – كما يروّج بعض المراقبين لذلك، فالرئيس ومستشاره “السابق” هما، في حقيقتيهما، وجهان لأزمة أمريكية واحدة، هي أزمة الحنين الماضوي إلى مجد لم يبق منه إلا العجرفة والغطرسة والقوة المجرّدة من أية أبعاد أخلاقية أو قيمية، والمفرغة من أي مضمون للأنموذج أو القدوة.. هي أزمة أفول الامبراطورية التي تفتقد منذ سنوات إلى مؤهلات الزعامة العالمية، ولا تمتلك جدارة القيادة.. هي ترزح تحت أعباء المشاكل الاقتصادية الداخلية، وتفاقم الصراعات الاجتماعية، واتساع الفجوة الطبقية، وتعاني من ضعف النمو، وارتفاع معدلات البطالة، والإفراط في المديونية، وتراجع المنافسة، وصعود قوى اقتصادية وعسكرية جديدة على الساحة الدولية، علاوة على قوة اللوبيات – المحلية والأجنبية – التي جعلت من مكاتب الإدارة والكونغرس بورصة لبيع وشراء المواقف السياسية على حساب المصلحة القومية الامريكية.
من هو المروّج للحروب حقيقة، ومن هو الأكثر إجراماً؟ موظف بيروقراطي لم يكن يوماً صانع قرار، تناقلته الإدارات المتعاقبة بين مكاتب الخارجية والدفاع والأمم المتحدة حتى انتهى به الأمر إلى البيت الأبيض مدة تسعة أشهر، أم رئيس، يتسلّح البلاهة، أوعز، بتغريدة خلال سهرة عائلية، بقصف بلد يحارب الإرهاب – سورية – بأكثر من مئة صاروخ بالستي ليرضي غروره الشخصي، ويدفع عن نفسه تهمة الضعف؟!.
بسام هاشم