“سكوفيا” قصص الوجع والحنين من ذاكرة الطفولة
ربما كانت حكاية الوجع والحنين حكاية الأمل من ذاكرة طفل مسكون بالألم بالحب بالجمال بحلم العودة إلى تلك القرية الوادعة هي تفاصيل بسيطة تحكي الكثير، وتأخذنا إلى عالم الطيبة والبساطة اختار المؤلف أن ينقلها إلينا عبر مجموعته القصصية المعنونة “سكوفيا” اسم قريته في الجولان السوري المحتل والتي كانت موضوعاً للندوة النقدية التي أقيمت في ثقافي أبو رمانة.
يقول القاص والناقد عماد الفياض عن مجموعته: دهشتي الطفولية الأولى التي لم تفارقني أنا الولد الساذج المندهش على حافة الحلم إلى الآن أسأل الأسئلة الطفولية الساذجة التي لم أجد لها أجوبة.
قدمت الندوة القاصة سمر الكلاس حيث رأت في المجموعة عالم الطفولة والبراءة والجغرافية البديعة والتقاطات أحرزت نصراً أدبياً وأنها نصوص في الفكر والبناء مبنية على خيال طفل مغلف بوقائع اجتماعية مكانية قائمة على تفسير رمزي لمعان باطنية عميقة لطفل ينمو ويفكر ويتطور.
ملعوبة فنياً
بدأ الحديث د. عاطف البطرس بالقول أن المؤلف شاعر وله قصائد جميلة صادقة تدل على ثقافة وخبرة، والذين يكتبون القصص القصيرة معظمهم تسرقهم لغة الشعر، حيث تطغى شعرية اللغة على سرديتها في القصة، وقد خشيت أن يقع الكاتب في غواية الشعر متغافلاً أنه يكتب سرداً ولكن فوجئت أنه في عدد لا يستهان بها من القصص اعتمد على الحكاية دون أن يأخذ بعين الاعتبار أن القصة القصيرة ليست حكاية وإنما ثمة فنيات تستخدم في السرد، وعفوية الكاتب أو العلاقة بين الوقائع وزمن كتابة النص قد أوقع الكاتب في الانجرار أو المصادرة التي استلبت الصنعة الفنية، بحيث شكل هذا التدفق الطفلي عائقاً أمام استخدام تقنيات القصة. ولفت البطرس إلى التفاوت في مستويات السرد بين القصص، معتبراً أن هناك قصصاً ملعوبة فنياً يختلط فيها المتخيل بالواقعي عندما يوحي إلينا الكاتب بأن ما نطالعه هو واقع ولكنه في الحقيقة من فعل الخيال، وهذه إحدى التقانات السردية التي تأسر القراء، وقد وفق الكاتب كثيراً في معظم قصصه بأن يوهمنا أن ما احتفظ به في ذاكرته بقي طفلياً لم يدخله الوعي المعرفي، وهناك قصص تعتمد الحكاية البسيطة وتكتفي بعفويتها ما جعلها جميلة هي أنها مقدمة تحت مظلة براءة الطفولة. وبيّن البطرس أننا نقرأ في المجموعة تاريخ وعادات وتقاليد وقيم، واعتبرها نسمة فرح وغمامة سخرية دون أن يتعمد الكاتب أسلوب السخرية في السرد، فليس هناك مبالغة أو نكتة، بل لغة بسيطة ووقائع ليس المقصود منها السخرية وهي تثير لدى المتلقي شيئاً من الفرح والبهجة.
المعرفة المبكرة
أما القاص والناقد أيمن الحسن فقد غاص في تفاصيل بعض القصص ملقياً الضوء على بعض الشخصيات ليضعنا في جو المجموعة فبدأ حديثه عن أهمية الأسرة وحضورها الكبير والمؤثر في طفولتنا والذي يتجلى في دور الأب والأم والأخوة والأخوات والجدة، لكنه يتبلور هنا في الحضور الطاغي للأخ الأكبر فياض، وبدأ الحسن من الأكبر سناً من الجدة التي عمرها من عمر الشجر حيث تقول: “هذه الأشجار من عمري زرعها أبي باسمي حين ولدت” الجدة تتعب لكن الولد المندهش لا يتعب لذلك تسميه غزال متمنية وهي تستند إلى عكاز اللوز “آه لو يعطيني الله ساقي طفل” هذه الجدة تجفف الأعشاب وتصنع منها الأدوية ولأنهم ينادونها يا جدة يستغرب الطفل فهي جدتي لماذا ينادونها يا جدة؟ الطفل المندهش برئ وساذج يريد أن يبقى مع جدته في المقبرة ويقول من سيطعمها، ويتساءل الحسن ماذا تعني الروح وكيف كانت أمي تقول إن الروح مثل الضوء والهواء الخفيف لا يراه أحد يسألها عن أخيه المتوفى إبراهيم فتقول أنها ذهبت إلى قبره وهو طير أخضر من طيور الجنة ككل الأطفال الذين يموتون.
ويقدم الحسن تفاصيل عن الأخت الكبرى شهيرة التي تقول بأن اليد اليمنى للأكل والكتابة لكنني غير مصدق لأنني في المدرسة أرى ابنة عمي نجاح تكتب بغير اليد التي أكتب بها فأحتار في نفسي وأقول أين اليمين وأين اليسار، وأبي يقول مازلت صغيراً، وأشار الحسن أنه يلاحظ في المجموعة أن هذا الطفل الممتلئ أسئلة ودهشة لا يوجه أسئلته إلا لمن هم أكبر منه، وختم بمقولة أن “المعرفة المبكرة تهجّر الطفولة”، مؤكداً أن هذا ما عشناه في طفولتنا عندما عرفنا أن ثمة بلاداً اسمها فلسطين احتلها الصهاينة وشردوا أهلها وعندما رأينا اللاجئين ومعاناتهم، وبعد ذلك عندما رأينا أخوتنا ينزحون من الجولان ركبنا الهم والغم ووجدنا أنفسنا كباراً علينا أن نركض إلى سنوات العمر فنعتليها لنصبح على مستوى المرحلة وما يتطلبه العيش في جو الحرب.
رائحة البراري
وروى الناقد محمد الحفري في مداخلته حكاية الحنين التي حركتها المجموعة القصصية في داخله كونه من أبناء الجولان السوري المحتل، حيث قال: كنت أريد أن أطفئ الفوانيس المشتعلة صوب القلق المزمن وصوب البلاد التي تركتها ذات حسرة وحزن وخوف لكن عماد الفياض نكأ جراحاتي وأعادني إلى الجولان، فعدت معه إلى سكوفيا الساحرة بجمالها أسرح مع خيالاته ومروياته وأحاديثه الجميلة الشيقة. وأكد الحفري أن سكوفيا عنوان يحمل وجهان على الأقل فهو يحمل ذاكرة ذاك الطفل من جهة وهو يعتلي تلك المرويات ليشكل منها قصصاً وحكايات وذاكرة وقادة لا تنضب من جهة ثانية وأهمية هذا الكتاب تأتي قبل كل شيء من تلك الذاكرة على وجه الخصوص جنيات عين التينة والصبايا اللواتي حين يرفعن قاماتهن وأيديهن وتصعد معها تلك الأحلام.
هذا الكتاب باختصار أعادنا إلى رائحة البراري.
جلال نديم صالح