ليت الفتى
د. نضال الصالح
ما يميز العاقل من غير العاقل ليس العقل وحده، أي ليس تلك القوى الإدراكية التي تتضمّن الوعي، والمعرفة، والتفكير، والتمييز، والحكم، واللغة، والذاكرة وحدها، بل المشاعر والأحاسيس والانفعالات والتصورات والعواطف والرغبات والخيارات أيضاً. فالإنسان وحده، وليس كلّ ذي روح، هو مَن يخفق قلبه لمرأى الجمال، وتختلج روحه لسماع الموسيقى، وتضطرب دورته الدموية لموت فراشة.
للشاعر المخضرم تميم بن مقبل قصيدة ميمية جرى بيتُ منها مجرى المثل أو الحكمة، هو: “ما أطيب العيش لو أنّ الفتى حجرٌ ….. تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ”، الذي استثمره غير شاعر معاصر بنصّه نفسه أو بما يحيل عليه، وممّا ينتمي إلى حقل التناصّ في الأدبيات النقدية الحديثة، والذي عدّه الشاعر أدونيس في كتابه “مقدّمة للشعر العربيّ” مفتاحاً لفهم الإنسان العربيّ في الفترة التي سُميت بالجاهلية، ورأى أنه “مرصد نطلّ منه على جغرافيته الروحية وأبعادها”.
أجل، ليت الفتى حجر، فتنبو الحوادث عنه وهو أشبه بجلمود صخر، ولا يعنيه من أمرها شيء. ليته حجر، فلا تهتز له شعرة وهو يرى هذا الخراب الذي يملأ كوكب الأرض بالدم، والدمار، والموت، بالدول الأبالسة، والممالك العبيد، والأنظمة الرقّ، والعثمانيين الجدد، والكتّاب الزيف، وأثرياء الحروب، والموتى على قيد حياة، والأحياء على قيد موت.
ليته حجر، فلا تبكي روحه لمرأى أعور يزعم أن له عينين، ويصخب بالإفك والكذب والبهتان صباح مساء مردداً ما كان جلجامش قال: “أنا الذي رأى”، أعور ملوّثٌ وجوده ومتخم بغير خراب، وآخر تصدّر هذا المشهد أو ذاك على غفلة من الحقّ والحقيقة لأنه يتقن المكر، والغشّ، والخداع، والمخاتلة، والخبث، ولا يملك من قيم الحقّ والخير والجمال جناح بعوضة، وثالث يلتهم الأخضر واليابس من دون أن يرفّ له جفن أو ترتعش يده وهو يورّم رصيده من المال الدنس، ورابع يصدح ليل نهار بالحديث عن الأمانة، والوفاء، والاستقامة، والإخلاص، بينما يمارس نقيض ذلك في السرّ، والعتمة، والظلماء. ليت الفتى حجر، فيكتفي بما سبق وسواه باستعادة المثل الشعبي القائل: “فخّار يكسّر بعضه”، ثم يقنع من الحياة بما يكفي الحياة.
أجل، ليت الفتى حجر، فيأكل ويشرب ويتنفس كما هو شأن غير العاقل، وكما لا يتميز منه، فيلجم لسانه عن قول الحقّ، ويغمض عينيه عن مشاهد، القبح، ويصمّ أذنيه عن أنين المعوزين، والمقهورين، والمحزونين، والمنهوبة أقواتهم من دون أدنى حياء أو خوف من عاقبة في الأرض أو السماء، ويرتضي لنفسه حكمة القردة الثلاثة، لا أسمع ولا أرى ولا أتكلم، ثم يمضي إلى فراشه ليلاً، ثم يغطّ في نوم عميق، لكأن كلّ شيء في يومه ونهاره، وحوله، وفوقه وتحته، فردوس أرضيّ أشبه بالجنة الموعودة في السماء.
ليت الفتى حجر، فينعم بالطمأنينة، والدعة، والسكينة، ويردد لنفسه كلّما رأى ضلالة: “في الصمت السلامة”. ليت الفتى حجر! كيف للفتى أن يكون حجراً، أو أن يصير حجراً؟