“البريكست” وجوهر الديمقراطية البرلمانية
ترجمة وإعداد: عناية ناصر
قد يصبح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مثالاً مدرسياً عن الضرر الذي يمكن أن يلحقه الاستفتاء بالديمقراطية البرلمانية. ولفهم ماهية الاستفتاء، لا يحتاج المرء إلا إلى إلقاء نظرة إلى الوراء على قرية “تارينز” الجبلية في ولاية تيرول النمساوية، التي يسميها سكانها أيضاً (القرية الساحرة)، لأن الزائرين يسحرون بجمالها الطبيعي الخلاب. في عام 1938 كان القرويون في “تارينز” مفتونين بشيء آخر هو المشاعر السياسية، لكن الجميع يعلم إلى أي مدى يمكن أن يكون هذا الشعور خادعاً لأنه عن طريق المصادفة. أجرت هذه القرية استفتاءين حول القضية نفسها، مثلما حدث في المملكة المتحدة بشأن عضوية الاتحاد الأوروبي في حزيران 2016، المتعلق بمستقبل البلاد.
تمّ تنظيم أول استفتاء حول “تارينز” والذي تمّ في 13 آذار 1938 من قبل المستشار النمساوي آنذاك كورت شوشنيغ. تعرّض شوشنيغ للترهيب من قبل هتلر الذي هدّد بشكل متزايد بغزو النمسا. في 9 آذار حاول المستشار أن يقاوم المدّ بإعلان استفتاء للحفاظ على الاستقلال النمساوي، ولكن بعد يومين ألغى ذلك تحت ضغط من هتلر، الذي هدّد بالغزو إذا تمّ التصويت. على أية حال، قام هتلر بتهميش شوشنيغ بكل الأحوال، واستبدله بالنازي النمساوي المتحمّس، آرثر سايس- استوكارت (الذي عين لاحقاً في هولندا المحتلة نيابة عن هتلر). ثم في 12 آذار سارت قوات هتلر إلى النمسا، لكن تارينز لم تتلق الأخبار التي تفيد بإلغاء استفتاء شوشنيغ. استمر الاستفتاء هناك كما هو مخطّط له، حيث صوّت 100 في المائة من السكان لصالح الاستقلال النمساوي، وبالتالي ضد الهيمنة النازية.
في 10 نيسان من العام نفسه تمّ إجراء استفتاء آخر، ونظراً لأن العديد من النمساويين رحبوا بهتلر بصدور مفتوحة، فقد طلب هتلر من الشعب النمساوي الموافقة على الضم والذي من شأنه، كما قال، أن يوفر شرعية لمعركة “آنشلوس”. وهكذا، في غضون شهر واحد، ذهبت قرية “تارينز” إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى. أما بالنسبة لمسألة ما إذا كان ينبغي ضم بلادهم إلى الرايخ الثالث، أجاب 99.7 في المائة من النمساويين “نعم”. في “تارينز”، كان الدعم أقوى وهناك صوّت الجميع لمصلحة الهيمنة النازية.
الهدف من هذه القصة ليس المقارنة مع 1930، لأننا لا نعيش في ثلاثينيات القرن الماضي، حتى لو كان هناك بعض أوجه الشبه بين ذلك الحين والمرحلة الراهنة. الأمر المذهل هو أن القرية غيّرت رأيها بالكامل في قضية خلال شهر واحد، ويمكن العثور على قصة “تارينز” في سيرة الإمبراطور المخلوع عن العرش، أوتو فون هابسبورغ، ابن آخر إمبراطور من آل هابسبورغ. كان أوتو شخصاً غير مرغوب فيه بالنمسا، لكنه عمل من الخارج لإبعاد بلاده عن مخالب النازيين. يؤكد كاتب سيرة حياته وصديقه غوردون بروك شبرد أنه ظل على اتصال مع شوشنيغ خلال أيامه الأخيرة كمستشار، ونصحه بالمشاركة في جميع أنواع المناورات والحلول السياسية (التي تجاهلها المستشار).
وبالعودة إلى استفتاء خروج بريطانيا، نرى أنه في ديمقراطية برلمانية مثل المملكة المتحدة، يتمّ وضع القوانين بواسطة ممثلين منتخبين من قبل الشعب. ووفقاً لقواعد اللعبة التي تمّ وضعها بعد دراسة طويلة لا يتفق أعضاء البرلمان تقريباً على أي شيء أبداً، ولعلّ هذا هو السبب بوجودهم في المقام الأول، فمهمتهم هي تحويل القضايا من الداخل إلى الخارج، والتداول بها إلى ما لا نهاية، وفي النهاية لإيجاد حلول وسط دقيقة تأخذ الآراء المختلفة للناخبين في الاعتبار. وهكذا، فإن الديمقراطية البرلمانية هي وسيلة -طقوس تقريباً- لضمان عدم تعرّض المجموعات المختلفة داخل المجتمع للإجحاف إلى حدّ ما. وعلى النقيض من ذلك، فإن الاستفتاء -إذا لم تتمّ إدارته بعناية ويرافقه مناقشات عقلانية، مثل تلك التي جرت مؤخراً في سويسرا وإيرلندا- يدور حول اللعب بمشاعر الجماهير، لأنه وبالعودة إلى “تارينز” يمكن بسهولة اللعب بهذا الشعور ويمكن تغييره مثل الطقس. علاوة على ذلك، فإنه يقوّض العملية البرلمانية، وبدلاً من التوفيق بين الجماعات في المجتمع، فإنه يضعها بمواجهة بعضها البعض. في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، استبعد 51.9 في المائة من الناخبين النسبة الباقية البالغة 48.1 في المائة. منذ ذلك الحين، لم يعد هناك طريق للعودة، ولا طريق للأمام. مهما حدث، يظل شخص ما يصرخ دائماً “هذا غير ديمقراطي!” الآن، بوريس جونسون يريد شق طريقه إلى الأمام باستخدام بعض الحيل القانونية لتهميش الديمقراطية البرلمانية بشكل كامل لبضعة أسابيع حاسمة، وما هو على المحك هنا ليس العضوية في الاتحاد الأوروبي ولا السيادة الوطنية، بل جوهر الديمقراطية البرلمانية.