“جديلة قرب النهر”.. يوميات قلقة
“جديلة قرب النهر” عنوان ديوان للشاعر حكمت داوود صادر عن دار كنعان “كتاب جيب” يتضمن مجموعة كبيرة من الومضات الشعرية المكثفة ويسمي البعض هذا النتاج بقصيدة الومضة على غرار القصة القصيرة جدا، هذا النوع من الأدب الذي يحمل نكهة خاصة سريعة بارقة بالصورة الكثيفة البارقة أمام عين مبدعها الملتقط لهذا التوقيع الحاصل على سيرة اليوميات القلقة.
في مقدمة الكتاب نقرأ في نص تعريفي يحمل عنوان حياة ودائعية: تشكيلة واسعة من ألواح شعرية ودائعية للأزمنة التي عبرها حكمت داوود ولم يتوقف عندها أو توقفه، لكن الأمكنة بالذات هي التي عطلت الشاعر وأكرهته على العودة إلى سنوات ما قبل الحرب، حيث الحياة بكل معانيها والموت يعيشان جنبا إلى جنب في تآلف لا حدود له، كأن الشعر يتشبه بالسياسة في تقطيعه للحياة نفسها وتتحضر اللغة لمعركة برهنة البقاء والهجرة عبر تغيير الكثير من معاني ومفردات ودلالات الحياة اليومية والذهنية، والشاعر متيقن دوما رغم التباس اللغة أن الشعر لا يموت أبدا، وإن توقف هنا أو هناك، إلا أنه مداوم في حب الحب ودمشق والأشياء الحميمة، فكلمتي الموت والحياة تفضيان إلى العدم المنظور المرئي، وإن كان المرئي هنا حضورا جسديا يغلفه الموت ليصار إلى هلام، وإن العدم غياب للحياة التي لا تظهر إلا مختفية في شكل من أشكال اللامرئي، كل شيء في نص داوود “جديلة قرب النهر” هلام في هلام وثمة ما هو أكثر من هلام ومن العدم نفسه، ثمة مسافة بين أن تصدق الموت وتجعله صديقا يعيش معك كما تعيش القصيدة مع شاعرها وبين أن تكذب الحياة التي تفضي في النهاية إلى يقين في القصيدة التي لا يمكن لأي قارئ عادي أن يرى روحه وموطئ ألمه، إذ ثمة يد تلوح ليس وداعا بل إنما نداء أو تضرعا للموت، نحن نصدق الكلمات التي تودعنا واحدة واحدة، بل هي المرة الأولى التي يناهز فيها الشعر من نفسه، إلى هذا الحد من الفجيعة مصافحا ومعانقا لها وكأن الفجيعة والحياة لدى حكمت داوود متزاوجتان تقتسمان الحضور والغياب في لعبة تسيرها البلاغة وتحتضنها الأمكنة والأشياء والإنسان، هي جدلية من يبقى ويزول من يرى ويغمض الحياة في قلبه، نصوص بمثابة جسر بين السماء ونقيضها تفترض قوانين الأعراف والشرائع الشعرية المتعارفة تجعل من قصيدة الحرب تاريخا جديدا أو تدوينا صوريا للإنسان السوري في لغة تتحرر من بساطتها ودلالتها وتشابكها، لتتوطد علاقة أخرى بين الانفعالات الحسية وبين طاقة التعبير القصوى حيث الجمال دون مختبر أو معمل بلاغي، فهذا المكان للتجريب ولا مقاربة للسردي إلا كمعيار إيقاعي خارج الشعر نفسه، فالشاعر لا ينتج إلا ما ورثه من ثقافة منطوقة، ثقافة ولدت من خراب كل القيم وزوالها: هنا دمشق جدائل دم ورصاص، نلعب الشطرنج ونشرب نخب الموت الآتي، نجدل شعر الخانات بالأبيض والأسود، لا نكترث مادامت اللعبة ستنتهي .
في هذه المجموعة نلتقي بشاعر يحاول أن يلملم كل هذا الخراب في تشكيل رائع مستفيدا من تضادات اللغة وتنافرها ومن بطش الواقع وعيا جديدا أصبح فيما بعد إسهابا جماليا ومشهدا شيقا للمشاعر، واقتراحا روحيا لسيرة شاعر يعيش الحرب بكل جمالياتها وقبحها، هذا إن سلمنا أن للحرب جماليات كما للقبح.
أكسم طلاع