دراساتصحيفة البعث

هروب جماعي من ديكتاتورية أردوغان

د. معن منيف سليمان

يزداد عدد المستثمرين الأتراك الفارّين من ديكتاتورية أردوغان نحو الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا وغيرها خلال السنوات الأخيرة بشكل خطير، بما يشبه “الهجرة الجماعية”. دفعهم إلى ذلك، ما يحدث من عمليات قمع ممنهجة تطال الجميع، وسياسة اقتصادية متهوّرة ضربت سوق العمل في الصميم، وعملة محلية هبطت إلى القاع، وتضخم في ارتفاع مطرد، ما دفع عدداً كبيراً من المستثمرين الأتراك إلى الهروب نحو تلك البلدان للحصول على جنسيتها حتى يضمنوا بقاءهم آمنين بعيداً عن جنون السلطان المتهور.
حكم أردوغان” تركيا على مدار سبعة عشر عاماً، مع إطلاق وعود كاذبة بتنفيذ رؤية سياسية واقتصادية، تنقل تركيا إلى مصاف الدول العظمى عن طريق توسيع نفوذ البلاد، ورفع مستويات المعيشة، وزيادة معدل النمو الاقتصادي.
وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016، شنّ أردوغان حملة قمع كاسحة ضدّ المواطنين، وفي عام 2018، تراجع الاقتصاد التركي وانهارت الليرة التركية بعد إعادة انتخاب أردوغان، واستخدام سياسة العنف والشدة ضدّ المواطنين. ووفقاً لإحصائيات الحكومة التركية، تنزح رؤوس الأموال من البلاد، بشكل يدلّ على فقدان الثقة، على نطاق واسع في رؤية أردوغان وسياسته التدميرية.
الهجرة الجماعية بين المستثمرين تعود أسبابها إلى الهلع من الحالة السياسية المأزومة التي تسبّبت فيها الحكومة بقيادة أردوغان، فضلاً عن جحيم الأوضاع الاقتصادية وفقدان الليرة نحو 40 بالمئة من قيمتها خلال عام 2018، ووصول التضخم إلى نحو 25 بالمئة، وإفلاس كبرى الشركات التركية ومطاردة البنوك لسداد ديونها. وكان رئيس غرفة الصناعة والتجارة التركية- الأمريكية “علي كوتشاك” اعترف بأن الزيادة الكبيرة في هجرة رؤوس الأموال من تركيا كان أحد أبرز أسبابها الأزمة الاقتصادية والسياسية.
ويأتي نزوح أثرياء تركيا في مسعى لتأمين أنفسهم وثرواتهم من تداعيات التطورات السلبية التي تتجه نحو تركيا بسبب سياسة النظام ورئيسه . فالمشكلات والأزمات التي حاول أردوغان افتعالها لإبعاد الأنظار عما يجري داخل تركيا، بدأت تحاصره لدرجة الاختناق، في وقت لم يبق أمامه لمواجهة نتائج أعماله وارتداداتها سوى إلقاء اللوم وتوجيه أصابع الاتهام للآخرين وزيادة دائرة أعدائه. ولعلّ آخرها “سياسة العند” التي انتهجها أردوغان ضدّ البنك المركزي التركي فيما يتعلق بإدارة السياسات المالية والنقدية التي انتهت بعزله محافظ البنك المركزي التركي.
رسمت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية مستقبلاً قاتماً لتركيا تحت حكم أردوغان، وقالت إنها تتجه نحو الانهيار مع هجرة الآلاف من الأثرياء والمثقفين والأكاديميين إلى خارج البلاد، بسبب حملة القمع وغياب العدالة، ومناخ استقطاب غير مسبوق في البلاد قد ينتهي بحرب أهلية مدمّرة.
وأكدت صحيفة “gazete duvar” التركية عدم قدرة المستثمرين على العمل في ظل حملة اعتقالات واسعة، ومصادرة أموال وممتلكات عدد من رجال الأعمال بزعم انتمائهم لحركة الخدمة التابعة للداعية “فتح الله غولن”، المقيم في بنسلفانيا الأمريكية. وتعدّ أولى الشركات المتضررة هي شركة الأغذية التركية العملاقة “يلدز القابضة”، التي تعرّضت لاتهامات بارتباطها مع الداعية “غولن”.
لقد تسارعت المخاوف داخل المجتمع من أن أردوغان يتلاعب بشكل غير مباشر بالاقتصاد لمصلحة نفسه ودائرته الداخلية. ولذلك فإن عدداً من المستثمرين في الوقت الحالي يخشون من الإعلان عن رحيلهم من تركيا بغرض الاستثمار خوفاً من الملاحقة الأمنية التي قد تطالهم، ويكتبون في الأوراق الرسمية أنهم ذاهبون بغرض السياحة. وقد أكدت تقارير أن بعض أكبر الشركات التركية تمّ تجريدها من أصولها في تركيا، وقامت العديد من هذه الشركات بإجراء تحويلات كبيرة لرأس المال في الخارج، وسط مخاوف من أن يتمّ استهدافها في حملة ما بعد الانقلاب.
لقد حاول أردوغان أن يجعل تركيا أكثر محافظة وتديناً، مع طبقة وسطى متنامية ودائرة ضيقة من النخب الذين يدينون له بالولاء بشكل خاص لنجاحهم الاقتصادي. وفي هذا السياق يؤكّد “بيكير أغيردير”، مدير شركة “كوندا” لاستطلاعات الرأي: “إن هروب رأس المال والموهبة هما نتيجة هذا الجهد المستمر للسيد أردوغان لتحويل المجتمع”. ونظام أردوغان لم يكتفِ بملاحقة رجال الأعمال وتخريب استثمارات عدد منهم في الداخل، بل روّج بأن الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها بلاده من تدبير “أطراف خارجية”.
ويرجع محلّلون أسباب الهجرة وتقديم طلبات اللجوء إلى توتر العلاقات السياسية لأنقرة مع جيرانها في منطقة الشرق الأوسط ومع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، ومؤخّراً التوتر الخارجي الذي وقع بين أردوغان وواشنطن والتهديد بفرض عقوبات على تركيا، إضافة إلى الاستياء الدولي من انتهاك تركيا للمياه الإقليمية للتنقيب عن الغاز، ما أثار مخاوف المستثمرين المحليين والأجانب من الاستمرار في السوق التركية.
أكثر من اثني عشر ألف مستثمر تتجاوز ثرواتهم المليون دولار، ويقدّرون بنحو /12/ بالمئة من أثرياء البلاد، بدؤوا نقل أموالهم إلى الخارج، ما بين عامي 2016- 2017، تحديداً بعد استغلال أردوغان مسرحية الانقلاب في إطلاق حملة اعتقالات واسعة طالت الجميع. ويبدو أن عودتهم لن تكون قريبة في ظل بقاء أردوغان رئيساً للبلاد، خاصة أن بعضهم حصل على جنسيات دول المهجر.
وكشف تقرير لبنك أفرو – آسيا حول “انتقال الثروات العالمية لعام 2019، أن أربعة آلاف مليونير غادروا تركيا خلال عام 2018 فقط، في دلالة على الهروب الجماعي لرؤوس الأموال من تركيا.
إنهم يغادرون تركيا بأعداد كبيرة، ويأخذون معهم الموهبة ورأس المال بطريقة تشير إلى فقدان واسع للثقة ومثيرة للقلق لرؤية أردوغان وذلك وفقاً لإحصاءات الحكومة والمحلّلين. ففي السنتين أو الثلاث سنوات الأخيرة، لم يقتصر الهروب من البلاد على الطلاب والأكاديميين، ولكن أيضاً رجال الأعمال وآلاف الأفراد الأثرياء الذين يبيعون كل شيء وينقلون عائلاتهم وأموالهم إلى الخارج. لقد هاجر أكثر من ربع مليون تركي في عام 2017، وفقاً للمعهد التركي للإحصاء، بزيادة قدرها /42/ بالمئة عن عام 2016، عندما غادر البلاد نحو /178/ ألف مواطن تركي.
وتتزايد طلبات اللجوء إلى الاتحاد الأوروبي من تركيا هرباً من ديكتاتورية أردوغان وسياساته الخاطئة والقمعية في إدارة البلاد. وكان عدد من المستثمرين فرّوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحصلوا على تأشيرة “المهاجر المستثمر” المعروفة اختصاراً بـ”EB-5″، هرباً من المستقبل الغامض في تركيا والأزمات السياسية والاقتصادية في البلاد.
من جهته قال “بول ليفنسون”، أحد مؤسسي شركة “نيويورك سيتي” الأمريكية للاستثمار الإقليمي: “إن عدد الأتراك المشاركين في مشاريع بالولايات المتحدة يتزايد كل عام عن السابق، في حين شهد عام 2018، ارتفاعاً غير مسبوق”. والمستثمرون الهاربون يرغبون في مستقبل أفضل لأطفالهم وتعليم جيد لهم، ما جعلهم يتجهون للولايات المتحدة كونها سوقاً مستقلاً، بعيداً عن ملاحقات النظام الذي يقبع في سجونه ما لا يقلّ عن 221 ألف معتقل سياسي بتهم واهية. كما تضاعفت طلبات اللجوء في أوروبا من قبل الأتراك في السنوات الثلاث الأخيرة، وقد تقدّم آلاف الأتراك بطلبات للحصول على تأشيرات عمل في بريطانيا أو برامج تأشيرات ذهبية في اليونان والبرتغال وإسبانيا، التي تمنح المهاجرين الإقامة الكاملة إذا اشتروا العقارات على مستوى معين. وتمّ إدراج أكبر مركز تجاري في تركيا وهي مدينة إسطنبول، ضمن قائمة سبع مدن في جميع أنحاء العالم التي تعاني من نزوح جماعي للأثرياء.
إن السياسة الفاشلة للرئيس التركي قادت إلى أزمة خانقة في البلاد، وأدّت إلى نزوح رؤوس الأموال منها إلى الخارج بشكل كبير، وهجرة المستثمرين الأتراك إلى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية هرباً من ديكتاتورية أردوغان وسياساته الخاطئة والعقيمة في إدارة البلاد، ما يُنذر بحرب أهلية وانهيار وشيك.