يبحثون عن دلالاتها ثقافة الغيب والتنجيم.. بحث عن بوابات الرزق والأمل وهروب متعمّد من الواقع إلى الأوهام
“مجرد صف حكي وكلام”، تختصر أم شادي الإجابة حين نسألها إن كانت تمتلك الخبرة فعلياً بمعرفة الطالع في فنجان القهوة الذي تقرؤه لجارتها حين تلتقيان معاً في بعض الأمسيات، أما الجارة المنتظرة على أحرّ من الجمر كلمات صديقتها المنمّقة، وطاقات الفرج لديها في الفنجان، فتبتسم نافية القناعة الكلية بالموضوع، وتلّوح بإحدى يديها كأنها تحاول استبعاد الفكرة ونفيها، ثم تجيب: الموضوع للتسلية والمرح وتمضية الوقت فقط، مع أن ملامح تلك المرأة تبدلت كلياً حين همست لها جارتها الخبيرة بفنون قراءة الكف والفنجان لتقترب وترى في طرف فنجانها تلك الأفعى المتربصة والحاسدة التي تدلل وتشير بوضوح لشخص ما يضمر لها سوء النوايا، وترد لها على الفور: “عرفتا عرفتا”، إنها فلانة، رغم تأكيدها مراراً أنها لا تؤمن؟!.
تشبه المحاكاة السابقة صوراًَ مكررة بكثرة في ثقافة الموروث الشعبي السوري لمجتمع يؤمن بالغيبيات وأبوابه المتعددة التي لا تقف حدودها عند قراءة طلاسم فنجان قهوة صباحي، بل تزيد لتصبح هاجساً دائماً عند بعضهم، فينتظرون بشغف تعليمات يومهم من قارىء أبراج، أو منجم ذائع الصيت في فضائيات كثيرة تهتم لنسب المشاهدة، فتضخم قدرات نجومها الاستعراضيين لتغري مزيداً من الضحايا، وتوقع كثيراً من المؤمنين في متاهات تلك العوالم والغيبيات!.
الله أعلم
ليست قراءة الفنجان الموهبة الوحيدة التي تبرع بها أم شادي، فيكفي أن تنظر المرأة في كفك وخطوطه المتشابكة لتمضي في الحكايات عن ماضيك وحاضرك ومستقبلك، تقول السيدة الأربعينية متحدثة عن هوايتها: لا شيء عبثياً في الحياة، ودائماً هناك دلالات وإشارات ورموز يمكن للمتبصرين والعارفين الوصول إليها، فقراءة الفنجان فن وهواية تملكتني منذ أعوام طويلة، وبدأت أتعمق فيها من باب الفضول، ثم أصبحت حرفة بعد قراءات عديدة، والخوض في تفاصيل الأسرار، ومثلها علم قراءة الكف، فالمسألة ليست سراً، بل هي رموز وطلاسم، وبراعة القارىء تكمن في اكتشافها وشرحها، لكنها حتماً لا تعني امتلاك معرفة الغيب، أو الجزم بحتمية حدوث الأمور، فالعلم الكامل دائماً عند الله، وتكمل القارئة: هناك رموز تظهر في خطوط فنجان القهوة لها دلالتها عند المبصرين، فيعرف الكثيرون مثلاً أن السمكة تشير إلى الرزق، والبومة لوفاة أحد المقربين، والزهرة للزواج، والقطة للسحر، والكلب للصديق الوفي، والأمثلة كثيرة، ومثل هذا الأمر يتكرر في قراءة الكف، فالخطوط التي تبدو متشابهة عند البشر تختلف في قراءة المختصين، فهناك إشارات في الكف للعمر، والصحة، والرزق، والزواج، ودائماً العلم عند الله.
قراءات مختلفة
ومع جدل مستمر بين متابعين، ومهتمين، أو رافضين للفكرة، تتباين آراء من سألناهم، فيؤكد علي أنه يؤمن فعلاً ببعض العلوم الغيبية التي تبنى على دراسات ومعطيات أثبتت جدواها كعلم الفلك مثلاً، وقراءات الأبراج، ويقول: هذه العلوم موجودة ولا يمكن لأحد إنكارها، لكننا نفتقر لمعرفة صحيحة في القراءة، ومثله لمى التي تؤكد تأثر يومها على نحو ملحوظ بما تخبرها به قارئة الأبراج الصباحية، فتكون متفائلة أحياناً، ومتشائمة أحياناً أخرى إذا حذرتها، أما عصام فيرفض كل ما يشاع ويقتنع به البعض عن علوم قراءة المستقبل وتوقعه، ويؤكد أن المستقبل هو ما نصنعه بأيدينا بالجهد والتعب والصبر، والتوفيق من الله، ويضيف: أعتقد أن الأمر لا علاقة له بالمستقبل بقدر علاقته وارتباطه بمواهب يمتلكها بعض الأشخاص في قراءة وجوه الآخرين، أو الاستماع إلى حديثهم، ثم البناء عليه، فترى مثلاً بعض قارئات الفنجان ينظرن في أعين الأشخاص أكثر من فناجينهم، وترى بعض محللي الأبراج يسألون أسئلة استفهامية كثيرة قبل أن يتحدثوا عن الطالع الذي غالباً ما يكون في إطار العموميات والأشياء متوقعة الحدوث عند معظمنا كالخبر السعيد، أو الخبر المفرح.
مراكز الضبط
يربط الدكتور محمد صفوان شبلي، اختصاصي علم النفس، والمدرّس في كلية التربية بجامعة دمشق، موضوع الإيمان بالغيبيات وتأثيرها على أسلوب الحياة عند الكثيرين من أفراد المجتمع بمسألة الجهل، والمستوى الثقافي المتدني، ونقص القاعدة العلمية مقابل اعتماد أسلوب الإيحاء للآخرين من قبل المنجم أو المبصر أو قارىء الغيب، ويضيف: يقسم الناس عموماً في هذا الموضوع إلى فئتين: فئة أولى تضم الأشخاص الذين لديهم مركز ضبط داخلي يعتمدون من خلاله على أنفسهم، وكل شيء يحدث في يومياتهم يعتقدون أنه ناتج عن سلوكهم وتصرفاتهم وردود أفعالهم، وهؤلاء أشخاص واقعيون من الصعب أن تؤثر علوم الغيبيات المختلفة على قناعتهم أو تبدلها، أما الفئة الثانية فهم الأشخاص الذين يكون مركز الضبط لديهم خارجياً، أي لديهم تعويل على العوامل الخارجية والغيبيات، وهؤلاء يكون من السهل التأثير عليهم نفسياً، وغالباً يكونون قد تعرّضوا للكثير من خيبات الأمل، أو الإحباط، أو الصدمات النفسية في واقعهم، وهذا ما يمكن تفسيره أيضاً بزيادة الإقبال على هذه العلوم في ظروف الأزمات، ويمكن القول أيضاً إنه من المهم جداً التمييز وعدم الخلط بين العلوم المعروفة كعلم الفلك القائم على أشياء واقعية، وعلوم التنجيم التي تعتمد الغيبيات، وأساليب الخدع النفسية، والإيحاءات المختلفة التي يتقنها المبصّرون.
بين الغيب والمنطق
تفسير آخر يقدمه الخبير الاجتماعي والباحث في علم النفس كنان الشيخ، فيرى أن تعلّق الإنسان بالغيبيات يعود لعدة أسباب، منها اعتقاد الإنسان أنه غير قادر على السيطرة على تفاصيل حياته، وبالتالي فالحياة تخضع لقوة غيبية، فيحرر نفسه من السيطرة، وينسبها إلى هذه القوى، ويحرر نفيه من مسؤوليته في عالم الواقع، أو قد يواجه الإنسان ظروفاً صعبة لا يمكنه السيطرة عليها مع أنه يرغب في حلها وتفسيرها، فيلجأ إلى هذه القوى الغيبية لعله يجد التفسير، ويضيف: يری علم النفس أنه بالإمكان قطعاً العيش دون أفكار عالم الغيب، وذلك بعد استبدالها بالمنطق، والنضوج، وقدرة احتمال الواقع، لكنه في المقابل يری أن البشر لن يتخلوا قريباً وربما أبداً عن عالم الغيبيات، خصوصاً لأهميته، وللمساعدة التي يقدمها في تلك البقاع في الأرض التي يسود فيها الظلم والحرب والموت، وأية محاولة لإدخال المنطق سوف تقابل بالرفض والاستنكار، لهذا السبب يتوجب النظر لحاجة الإنسان للغيبيات بعين الاحترام والتواضع، ولكن من الضروري إلقاء الضوء علی الحالات التي يستعمل فيها بعض البشر هذه الأفكار للتسبب بالأذى، والتحرر من المسؤولية، أو لاكتساب السيطرة.
ليسوا منجّمين
ويؤكد الشيخ أن الكثير من المنجّمين هم في الحقيقة متمرسون في علم الفراسة أكثر من مهارتهم في معرفة الغيب، أو التنبؤ به، فعلم الفراسة يعد من العلوم الطبيعية التي تمكننا من معرفة بواطن الناس من خلال النظر إلى أحوالهم الظاهرة من طريق الألوان، والأشكال، والحركات، والتأمل في الأعضاء، والفراسة مصطلح شامل، ولا يختص بعلم معين، فهناك فراسة الأثر، أو ما يسمى بـالعيافة، وهي تتبع آثار الأقدام على التراب، وفراسة الريافة التي تتم من خلالها معرفة مصادر المياه، وأماكن الحيوانات والنبات، أما الأنواع التي تختص بالبشر فهي متعددة ومتداخلة أيضاً، ولها أشكال كثيرة تأتي في طليعتها فراسة القيافة التي تؤدي إلى معرفة الناس بمجرد النظر إلى بشرتهم وملامحهم وبنية أجسادهم، حالياً ظهرت الكثير من الدراسات والبحوث في علم الفراسة الخاص بالبشر وتحليل شخصياتهم كفراسة الوجوه، أو ما يسمى “بـالفيزيونومي”، وفراسة الإيماءات والحركات الذي تتفرع منه فراسة الإحساس بالنبرات والهيئات، وفراسة خط اليد أو الكتابة اليدوية، إضافة إلى فراسة الألوان، ويختم الشيخ: لابد من التفريق بين علم الفراسة الذي له تفسيرات في علم النفس، ومرتبط بعلم الإنسان والوراثة، وبين الحاسة السادسة التي لا تفسيرات أو ارتباطات منطقية لها، ولابد أيضاً من تغليب لغة المنطق والعقل، ونشر ثقافة التفكير، والبحث في مجتمعنا بدل ثقافة الغيب والتنجيم، فكما يقال دائماً: “كذب المنجّمون ولو صدقوا”.
محمد محمود