ما هي العروبة الحضارية؟
د. إبراهيم علوش
هل تقوم العروبة على أساسٍ عِرقي أو عنصري، كما يزعم البعض؟ وهل يشكّل الانتماء لـ “عِرقٍ عربيٍ صافٍ” أحد شروط الانتماء للعروبة، بما يخرج منها من لا ينحدرون من أصلابٍ عربية صرف من سكان أقطار وطننا العربي؟ وهل الفكر القومي العربي فكرٌ عنصريٌ متأثرٌ بالمدرسة النازية التي ربطت الانتماء للقومية الألمانية بالانتساب لعرقٍ “آريٍ” أبيض، على ما يزعم الليبراليون وبعض الإسلاميين وبعض اليساريين؟ وهل يعني تبني الفكر القومي العربي تلقائياً نشوء نزعة “استعلاء أو تعصب قومي” (شوفينية) إزاء غير العرب؟.
في الواقع، ليس صحيحاً على الإطلاق أن المفكرين القوميين العرب بنوا العروبة على أساس عِرقيٍ أو عنصري، وقد استعرضتُ في كتاب “أسس الفكر القومي العربي” كتاباتٍ لنخبةٍ من أهم المفكرين القوميين العرب في القرن العشرين من أقطارٍ وتوجهات سياسية وحزبية مختلفة، ابتداءً من ساطع الحصري، حتى ياسين الحافظ، مروراً بعصمت سيف الدولة وآخرين، ولم يكن بينهم واحدٌ يعدّ العِرق أو السلالة، أحد شروط الانتماء للأمة العربية.
على العكس تماماً، كانت عوامل القومية عندهم تقوم على اللغة والثقافة المشتركتين، أو عليهما مع عامل الجغرافيا المشتركة، أو على ما سبق مع عامل المصير المشترك، فساطع الحصري مثلاً يقلل من أهمية الجغرافيا، مركّزاً على عاملي اللغة والثقافة، وغيره يعدها أساساً جوهرياً مثلهما، ولكن لا يُطرح موضوع العِرق أو “العنصر” العربي قط عند أيٍ منهم كأحد عوامل نشوء الأمم، بل لا يُطرح حتى للنقاش.. فتلك تهمة باطلة لا أساس لها.
ما ينطبق على المفكرين القوميين العرب في القرن العشرين ينطبق أيضاً على علماء العرب ومفكريهم في العصر العباسي والعصور الوسطى الذين لا تجد بينهم واحداً يجادل بأن العروبة تقوم على أساسٍ عِرقي أو سلالي، وقد وثّق شيخ المؤرخين العرب عبد العزيز الدوري، رحمة الله عليه، في كتابه النوعي “التكوين التاريخي للأمة العربية/ دراسة في الهوية والوعي” (1985)، مقولات علماء العرب وفلاسفتهم في العصر العباسي والعصور الوسطى في القومية العربية واتصال العروبة قبل الإسلام وبعده (ص: 99-112)، فأظهر أنهم، من الجاحظ إلى ابن خلدون، مروراً بابن قتيبة المؤرخ والبلاذري بنوا مفهوم العروبة على الثقافة واللغة، وبعضهم أضاف إليهما الجغرافيا مثل المسعودي، ولم يبنوها على النسب.
وهو ما يُسقط المفهوم العِرقي أو العنصري للقومية عند علمائنا وفلاسفتنا منذ ألف عام أو أكثر، كما يُسقط مزاعم بعض الجهلة بتاريخنا الفكري والثقافي من أن مفهوم الأمة والقومية العربية هو مفهوم “أوروبي مستورد”، فضلاً عن كونه يربط العروبة قبل الإسلام بالعروبة بعده، وهذا مهمٌ في الرد حتى على بعض المفكرين القوميين، ممن يتوهمون أن الأمة العربية نشأت بعد الإسلام فحسب، وهو الشطط الذي يقدّم العروبة فريسةً سهلة لمن يزعمون زوراً أن “العروبة خارج الجزيرة العربية احتلال”، ومن هنا تنبع الأهمية المعاصرة لما قاله علماء العرب القدامى عن الأمة العربية قبل ألف عام.
لقد أسهم علماء العصر العباسي وفلاسفته في تحديد مفهوم العروبة ثقافياً وحضارياً، وميزوا بين مفهوم القبيلة، ومفهوم الملة القائم على اتباع طائفة أو ديانة معينة، ومفهوم الأمة القائمة على أساس وحدة العوامل الثقافية واللغوية والجغرافية، وقد جاء ذلك بعد طول استقرار القبائل العربية، بعد الفتوحات، في مدنٍ وأرياف، وارتباط وعيهم ومصالحهم بمواطن جغرافية وأطر اجتماعية، وبدء اضمحلال الروابط القبلية، وهو ما مهّد لانصهار مجتمعي أعمق ضم عرباً ومتعربين، كما ضم أهل مدن وأرياف وبوادي، هو “الشعب العربي”، بكل طوائفه وقبائله وأصوله العرقية المتنوعة.
في رسائل الجاحظ مثلاً (الجزء 1، ص 10-11) نراه يقول: إن العروبة ليست نسباً، بدلالة اختلاف نسب القحطانية والعدنانية وكلاهما عرب، واختلاف القبائل في كلٍ منهما، فالعروبة عنده لغةٌ وثقافة، أي عروبة حضارية بمصطلحنا المعاصر، كما أن الجاحظ يتابع في رسائله (ص 31) أن المولى، أي غير العربي الذي يدخل الإسلام ويتعرب، يُعد عربياً، وكما صاغها الجاحظ: “المولى أقرب إلى العرب في الكثير من المعاني.. وهذا تأويل قوله (ص) “مولى القوم منهم، ومولى القوم من أنفسهم”.
عروبتنا إذاً ليست عروبةً عنصريةً أو شوفينية، ومقولة “الصفاء العرقي” لأي أمة مقولة غير علمية حتى في ألمانيا، فما بالك بأمة كالأمة العربية وضعها قدرها على طرق التجارة والهجرات والغزوات العالمية؟.
الملفت أن رد العلماء والمفكرين العرب على الحركة الشعوبية المعادية للعرب والساعية للتبخيس من قدرهم منذ نهاية القرن الهجري الثاني وبداية الهجري الثالث كان رداً ثقافياً حضارياً، تمثّل أساساً بربط العروبة قبل الإسلام بالعروبة بعده، وبإبراز الإنجاز العربي الحضاري حتى في الجاهلية، كما تجلى ذلك مثلاً في مختارات الحماسة عند البحتري أو أبي تمام، أو في كتاب “المعارف” لابن قتيبة الدينوري الذي تناول فيه تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، أو في “أنساب الأشراف” عند البلاذري الذي ضم بين دفتيه شخصيات متعربة غير عربية الأصل لعبت دوراً مهماً في الحياة العامة.
ما سبق هو غيضٌ من فيض، وهو يلخّص المفهوم العربي للأمة القائم على أساس حضاري منفتح، يختلف جذرياً عن المفهوم العِرقي للقومية الذي ظهر في أوروبا في التاريخ الحديث، كما أنه يلخّص فكرة ربط العروبة قبل الإسلام وبعده، وهي سقطة يقع فيها بعض الإسلاميين حينما يبخسون من قدر العرب قبل الإسلام، من دون أن يدركوا أن تلك بدعة من صنع الشعوبيين لكي يبخسوا من الإسلام ذاته عبر تبخيس من حمل رايته.
إن أهمية تحديد العروبة كهوية على أساس غير عِرقي، وغير مغلق سلالياً، تكمن في رسالة الانفتاح والاستعداد لتقبّل الاختلاف، الذي لا يعني الخلاف بالضرورة، داخل المجتمع العربي، وتكمن بدرجة أكبر في الاستعداد للتفاعل الندي والأخذ والعطاء مع الثقافات والحضارات غير العربية، كما جرى في المرحلة الذهبية للعصر العباسي، وفي القدرة الطبيعية على استيعاب عناصر غير عربية في المجتمع العربي على قدم المساواة في السراء والضراء، وحتى كقادة للعرب، ما دام مشروعهم يخدم مصلحة الأمة العربية، محمد علي باشا أنموذجاً.
العروبة الحضارية إذاً هي هوية ثقافية لغوية، وهي هوية منفتحة على التنوع والتفاعل، ومرونتها سر قوتها، فهي تبقى عروبة، وتبقى هوية لا نبقى كأمة من دونها، فالعروبة الحضارية لا تعني التخلي عن الهوية، بل تعني شمولها أطراً أوسع، ووضعها على مسار يتيح لها التطور مع الزمن، وهذا ما أقرأه من حديث السيد الرئيس بشار الأسد في 14/11/2017 حينما قال أمام “الملتقى العربي لمواجهة الحلف الأمريكي الصهيوني الرجعي ودعم مقاومة الشعب الفلسطيني”: إن العروبة مفهوم حضاري شامل لكل الأعراق والأديان والطوائف، وهي حالة حضارية ساهم فيها كل من وجِد في هذه المنطقة دون استثناء، واللغة العربية والقومية العربية هما الجامع لكل تلك الأعراق والطوائف والأديان، وبالوقت نفسه تحافظان على خصوصية كل واحدة منها..