عن المعدن الذي فقد بريقه غرام الذهب زاد قياساً بـ2010 نحو 15.5 ضعفاً و الصناعة ما زالت تعاني موتاً سريرياً!
تتحسن الصناعة –أية صناعة- عادة بتحسن وارتفاع أسعار المبيعات والتصريف وفتح أسواق جديدة، أو تنمية وتوسيع تلك القائمة.. صناعة الذهب المحلية تبدو شاذة عن هذه القاعدة، فالأسعار ارتفعت خلال سني الأزمة – قياساً بما قبلها – على نحو غير مسبوق، بيد أن العوائد والمردودية انخفضتا على نحو غير مسبوق أيضاً، بفعل عديد العوامل المحكومة ببيئة عمل لا تراعي خصوصية وحساسية التعامل بالمعدن النفيس، حتى بات الصياغ يجاهرون بشكواهم جراء تردي أوضاع صناعتهم، التي لطالما أنتجت عبر العصور المعدن الذي ظل يوصف بأنه (زينة وخزينة)..
سوق بلا زبائن..!
لا يحتاج الداخل إلى سوق الصاغة في دمشق، إلى الكثير من الجهد، ليتعرف على الركود الكبير الذي تعانيه، إذ من المفترض أنها تعج بالحركة في مثل هذه الفترة من السنة، حيث موسم الزيجات المرتبط بالحصاد وبيع المحصول، ولاسيما في الأرياف، وهو ما حصل معنا (المحرر) بالفعل، حيث دخلنا برفقة بعض الزملاء إلى السوق، التي لم نجد فيها أثراً لزبائن، إلا بعض من حضروا للسؤال عن الأسعار، الذي غالباً لا ينتهي بشراء، أو أنهم حضروا لاستبدال قطعة بأخرى. يقول صياغ بعضهم لم (يستفتح) منذ يومين..!
تراجع المبيعات 90%
يقدر عضو مجلس إدارة جمعية الصاغة والمجوهرات إلياس ملكية تراجع مبيعات الذهب، خلال ثمانية أشهر قياساً مع الفترة ذاتها من العام الفائت، بنحو 90 بالمئة، فبعد أن كانت صناعة الذهب جاذبة ومغرية، باتت طاردة لحرفييها، الذين أغلقوا ورشهم بقصد السفر، حيث تسعى الكثير من الأسواق الخارجية لاستقطابهم، نظراً لما يمتاز به الصياغ السوريون من خبرة ومهنية عالية.
ويبدي ملكية أسفه لإغلاق حوالى 25% من الورش العاملة في هذه الصناعة، مبيناً أن هناك قرابة 5000 حرفي وبائع وعامل على مستوى البلاد متعطلون عن العمل، بسبب ما تعانيه هذه الصناعة من ركود؛ ما أسهم في لجوء بعض ضعاف النفوس للغش والتزوير، وضعّف الثقة في الذهب الوطني، بعدما تعززت عبر عقود طويلة من العمل على ضبط العيارات والتدقيق فيها، سواء من قبل الجمعية مباشرة أم من قبل الجهات ذات الصلة بعملها.
الأسعار ارتفعت.. السوق تآكلت
ارتفعت أسعار الذهب المحلية، جراء الأزمة، إلى مستويات غير مسبوقة، وذلك تحت تأثير تذبذب أسعار الصرف، والرسوم المفروضة على الدمغة، وعدم توازن العرض مع الطلب، ولاسيما في سني الأزمة الأولى، حيث لجأ المتعاملون للمعدن النفيس كوعاء ادخاري مضمون، إثر تراجع سعر الليرة، فضلاً عن قلة المشغولات الجديدة، والاعتماد في التصنيع على الذهب الكسر بالدرجة الأولى، وعمليات التهريب الداخلية والخارجية، التي كانت تنشط بين الفينة والأخرى.
وتفيد البيانات الصادرة عن الجمعية أن الصاغة أغلقت نهاية 2010 على سعر 1805 ليرات سورية للغرام عيار 21 قيراطاً، الذي بدأ يتحرك ارتفاعاً، تحت تأثير العوامل السابقة وغيرها، ليسجل خلال أعوام: 2011، 2012، 2013، 2014، 2015 على التوالي: 2760، 4250، 5000، 6900، 11800 ليرة، ثم ليرتفع ارتفاعاً ملحوظاً في 2016، إذ وصل إلى 17000 ليرة، وليستقر للعام التالي عند السعر نفسه، ثم بزيادة 500 ليرة في 2018.
بيد أن القفزة السعرية الكبيرة جاءت خلال التسعة أشهر الفائتة من العام الجاري، حيث لامس الغرام في 09/09 حافة الـ 28000 ليرة، ليكون بذلك ارتفع عن سعر ما قبل الأزمة بحوالى 15.5 ضعفاً، وبالنظر لكون الذهب معدناً مقوماً بالدولار، الذي وصل مؤخراً إلى 700 ليرة، فإن هذه الزيادة هي متناسبة ومنطقية إلى حد ما، إلا أن العوامل التي تحكم الطلب على الذهب تختلف بعض الشيء عن تلك التي تحكم الدولار، فهما يتفقان بالطلب الادخاري، ولكن الأول يطلب بقصد الزينة والاستبدال والمقايضة، وبعض الاستخدامات الطبية وغيرها..
للأصفر احتياطيان..
تعطي المؤشرات المتداولة رقماً للاحتياطي الوطني من الذهب، أي لدى مصرف سورية المركزي، قريباً من 25.6 طناً، وهو يتطابق مع تقديرات مجلس الذهب العالمي لاحتياطيات الدول العربية من المعدن النفيس، إلا أن هناك ما يمكن تسميته احتياطياً موازياً، فثمة عشرات الأطنان من المشغولات الذهبية تتزين بها السوريات ورثن بعضاً منها عن الأمهات والجدات؛ لذا فالنظر إلى الذهب هنا يكون أبعد من مجرد وعاء ادخاري، إنه باختصار ثقافة وتقاليد راسخة.
العامل النفسي
يميل الباحث الاقتصادي الدكتور شادي أحمد إلى أهمية مراعاة العامل النفسي عند الحديث عن أسعار الذهب، فقد تنخفض الأسعار عالمياً، وترتفع محلياً، في مفارقة غريبة سببها الرئيس الدولار المحلي، مشيراً إلى أن سعر الذهب يتحدد تبعاً لحركة البورصات العالمية، بالنظر إلى كونه مقوماً بالدولار، أما محلياً، فإن الصياغ لا يسعرون مشغولاتهم بناء على السعر الرسمي للدولار (سعر مصرف سورية المركزي)، ولا وفقاً للسعر الموازي، بل يراعون السعرين، مع إضافة أجرة الصياغة، والتي زادت من 100 إلى 200 ليرة.
ويلفت أحمد إلى أهمية الفصل بين احتياطي المركزي من الذهب (ذهب نقدي)، الذي يدعم ويغطي بعض إصدارات الليرة؛ ما يشكل عامل استقرار وتوازن نقدي، وبين الذهب المتداول في الصاغة، وهذا يجب أن ينظر إليه كأية سلعة أخرى؛ لذا من حق وزارة المالية فرض رسوم وضرائب عليها، لكن وفي موازاة شكاوى الصياغ المتكررة، يمكن النظر إلى الموضوع من زاوية حماية هذه الصناعة الرائدة في سورية وتعزيز تنافسيتها. في إشارة إلى الاستعصاء الحاصل بين المالية والصاغة حول جباية 150 مليون ليرة من صاغات دمشق وحلب وحماة، وامتناع الأخيرة عن السداد بذريعة ركود الأسواق، وعزوف الصياغ عن دمغ مشغولاتهم؛ ما يضع العصي في عجلات صناعة الذهب.
مهن مهددة..
ويؤدي الحفاظ على صناعة ذهب قوية ومستقرة، وفقاً لخبراء اقتصاديين، لحماية المهن والحرف ذات الصلة بها، فانخفاض الطلب على المعدن النفيس، قد يهدد ما يقارب عشر مهن يدوية رئيسة مرتبطة بالإنتاج والبيع، كتصنيع القوالب وبيع عدد صياغة النقاشين وتركيب الأحجار الكريمة وتلميع الذهب، علماً بأن صناعة الفضيات تشكل رديفاً لصناعة الذهب، وغالباً ما تتشاركان في المشغل أو في المتجر.
أحمد العمار