بلعام وبلعمة بين الأساطير الكنعانية والتوراتية
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
لا شك أن استعادة التاريخ الفلسطيني مسألة بالغة التعقيد، وهي تفرض علينا على كل حال أن نستغل كل فرصة ممكنة في محاولة الحصول على الحقيقة، وإن كان الزمن الذي يفصل بيننا وبين الأحداث التي يمكننا استغلالها ليس زمناً بسيطاً، وكلما كان أكثر كلما ازدادت صعوبة المشكلة.
حين طالعت ما كتبه الزميل زكريا محمد من رام الله تحت عنوان “فلسطين: التاريخ يخرج من جوف جبل”، أدهشني أن الكاتب لم يشر من قريب أو بعيد إلى علاقة المعلومات التي أوردها والأسطورة المرافقة لها حول مدينة بلعمة الكنعانية وملكها الصالح بلعام بما ورد في التوراة حول النبي بلعام بن بعور، وهي واحدة من أشهر القصص التوراتية.
إن ما أورده زكريا عن بلعمة وبلعام مهم جداً في كل المقاييس، سواء للباحثين في حقل التاريخ القديم بشكل عام، أو لدارسي التوراة بشكل خاص. فنحن هنا أمام أنقاض مدينة كنعانية اسمها “بلعمة” تحمل اسم ملكها “بلعام”، وتدور حولها أسطورة اللعن التي يتناقلها الناس بصورتها المحلية، وليس التوراتية، مما يعطينا فرصة المقارنة بين الأسطورتين. والمقارنة بين الأسطورتين تضعنا في الواقع أمام قصتين مختلفتين، وأما التحقيق والتدقيق في جغرافية القصة فإنه يقودنا إلى أفق ثالث!!.
هذه المدينة “بلعمة” –كما يقول زكريا– تقع على تلة كبيرة على المدخل الجنوبي لمدينة جنين. أما مدينة “بلعام” التوراة، فقد اختار لها الكتبة موضعاً بعيداً جداً إلى الشمال على نهر الفرات بالنسبة للمفسّرين، وجعلوا لها اسماً هو فاتور لو فتشنا عنه فسنجده داخل جزيرة العرب بعيداً عن نهر الفرات. ووفق رواية زكريا عن بلعمة، ثمّة عين للماء تقع عند سفح التل تحمل اسم “عين سنجب”، وهناك نفق يصل بين العين والمدينة، يحمل اسم “نفق بلعمة”.
والأسطورة التي يتناقلها الأهالي تقول إن مدينة بلعمة كان يحكمها ملكٌ صالحٌ يدعى بلعام. وفي أحد الأيام نزل عند عين السنجب جماعة من قوم ما، فطلب أهالي المدينة من بلعام أن يلعنهم، فقد كان يملك القدرة على اللعن.
لكنه رفض ذلك، ثم ألحوا فرفض ثانية. لكنه في المرة الثالثة وافق شرط أن يمتحن القوم المذكورين. وهكذا قرّر إنزال نساء بلعمة عاريات إلى عين الماء، فاستدار القوم عفافاً، وتناولوا الماء من وراء ظهورهم. غير أن أهالي بلعمة ضغطوا على بلعام من جديد فلعن القوم خائناً بذلك الأمانة، ففقد ملكه وكلمته، أي قدرته على اللعن. ويقول زكريا إنه هكذا احتفظت الأسطورة الشعبية باسم “بلعمة” من خلال بلعام الملك الأسطوري.
ولا ندري إذا كان استخدام الكاتب لعبارة “قوم ما” هو اجتهاد منه شخصياً لإخفاء اسم القوم في الأسطورة، أم أن الأسطورة تغفل اسم القوم. ونتمنى إذا كان هناك اسم يذكر للقوم أن ينشره ويكمل الأسطورة بأمانة. ونتساءل مبدئياً: هل يتحدث أصحاب الأسطورة عن “بيت يعقوب” أم عن “بني إسرائيل” أم عن قوم آخرين لا علاقة لهم بقصة موسى النبي من قريب أو بعيد؟. ففي البحث عن المعلومات التاريخية تكون الأمانة والدقة واجبة بغضّ النظر عن أي ضغوط تفرضها ظروف الصراع القائمة بيننا وبين الصهاينة. لكن الزميل زكريا يورد معلومات تاريخية إضافية مهمة حول بلعمة، فيقول إن أول ذكر لها ورد في الأرشيف الملكي المصري باسم “أبيلام”، حيث وردت ضمن قائمة المدن التي هزمها تحتمس الثالث في معركة مجدو في القرن الخامس عشر ق. م. وربط غالبية الآثاريين بين “أبيلام” وبلعمة.
والواقع أن هذه المعلومة في غاية الأهمية. فإذا كانت مدينة بلعمة قائمة في القرن الخامس عشر ق.م، فمعنى ذلك أن بلعام وجد في وقت سابق على هذا التاريخ، سواء كان هذا الوقت قريباً أو بعيداً.
وحيث تدّعي التوراة أن بلعام دُعي للعن بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر في حوالي القرن الثالث عشر ق.م، فإن وجود بلعمة زمن معركة مجدو يلغي مصداقية قصة التوراة حول زمن الخروج. والواقع أن أسطورة بلعام الفلسطينية تلغي أسطورة بلعام التوراتية سواء من حيث الزمان أو من حيث المكان، وتكشف الكيفية التي زوّر بها مدوّنو التوراة التاريخ القديم. وتأتي هذه الأسطورة الفلسطينية المدعّمة بالوجود المادي لمدينة بلعمة الكنعانية وعين سنجب لتعزيز النتائج التي توصلنا إليها في كتابنا “اليهود بين القرآن والتوراة ومعطيات التاريخ القديم” حول زمن الخروج. ولا بأس أن نستعرض هنا أسطورة التوراة عن بلعام لنرى كيف زوّر مدوّنو التوراة تاريخنا الكنعاني القديم.
في الواقع أن التوراة لا تذكر إطلاقاً تجول موسى على رأس بني إسرائيل في فلسطين الوسطى والشمالية، لا قبل ولا خلال ولا بعد التيه، بل ترفض هذا الأمر رفضاً كلياً. وفي ضوء هذه الحقيقة قد تكون الجماعة التي تتحدث عنها أسطورة بلعمة تتناول ببساطة يعقوب وعائلته عند عودتهم من الشمال السوري “حران” إلى فلسطين، لكن كتبة التوراة استعاروها فأضافوها إلى قصة موسى وبني إسرائيل. فالواقعة الأصلية لقصة بلعام وقدرته على اللعن إنما كانت في جنين بعيداً عن تخوم موآب.
وبعيداً عن قصة الغزو الذي قام به بنو إسرائيل حسب التوراة. ولو كان القوم موضوع اللعنة غزاة لما تردّد بلعام في لعنهم، ولما احتفظ الكنعانيون بتلك الأسطورة. مع ذلك من الواضح أن كاتب التوراة استعان بهذه الأسطورة الكنعانية في بناء أسطورته الخاصة، ولكن بعد أن أدخل عليها التعديلات الملائمة، وربما استغل في ذلك أسطورة أخرى.
إن أي تحليل منطقي للأسطورتين الفلسطينية “الكنعانية الأصل” والتوراتية حول قصة بلعام لا بدّ وأن يقرّ في نهاية المطاف بأن الأسطورة الفلسطينية المتوارثة هي الأصح. فمدينة “بلعمة” الكنعانية حقيقة تاريخية قائمة على الأرض حتى الآن، وهي منسوبة قطعاً إلى بلعام، وهذه المدينة كانت قائمة وبهذا الاسم في القرن الـ 15 ق.م، وربما أثبتت الحفريات أنها أقدم من ذلك بكثير. وبلعام سواء كان ملكاً صالحاً “وفق الأسطورة الفلسطينية” أو نبيّاً “وفق الأسطورة التوراتية” فإنه كان موحّداً، مما يرجّح أنه تأثر بديانة التوحيد الإبراهيمية. ثم إن صيغة الحوار التوراتية بين الخالق وبين بلعام تجعل القصة التوراتية مصطنعة بعيدة عن القصة الأصلية لبلعام. أما العظة الكنعانية من قصته، فهي أنه أخطأ بلعن من لا ينبغي لعنه، فجرّد من قدرة اللعن. وهي فكرة تماثل التفكير الديني السائد عندنا الآن، وهي أن اللعنة لا تجوز إلا على الظالم أو الكافر، وأن لعن أناس باطلاً يجعل اللعنة باطلة بل وترتدّ على اللاعن. ففي الأسطورة الكنعانية عظة وعبرة، بينما تخلو أسطورة التوراة من أي عظة أو عبرة، وتمثل فقط محاولة سافرة لتزييف التاريخ.
ومن هنا نرى أن الاهتمام بالتنقيب في مدينة بلعمة الكنعانية هو أمر مهم ينبغي أن تعتني به دائرة الآثار الفلسطينية، فربما عُثر في خرائب تلك المدينة على رقم أو وثائق تلقي أضواء جديدة على تاريخ فلسطين القديم، وعلى قصة بلعام الحقيقية وموقعها من هذا التاريخ. لكن هذا لا يلغي بالضرورة الحاجة إلى فهم الجغرافيا الحقيقيّة لقصة بلعام التي أوردتها التوراة. فالموآبيون والمديانيون كانوا يعيشون في منطقة واحدة متصلة، ويصل الأمر بملك موآب إلى حدّ القول لشيوخ مدين “الآن ترعى هذه الجماعة كل ما حوالينا كما يرعى الثور خصب الحقول”.
وواضح بالمحصلة أن كتبة التوراة بنوا أسطورتهم حول بلعام مستعينين بقصة وردت في منطقة المدينة المنورة، ونقلوها في تفسيراتهم اللاحقة إلى شرقي الأردن. وقد حاول البعض الربط بين هذه القصة وبين إشارة وردت في القرآن الكريم. فقيل في تفسير قوله سبحانه وتعالى [واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناهُ آياتنا فانسلخ منها وأتبعه الشيطان فكان من الغاوين] “الأعراف 175″، فقالوا إن هذه الآية تشير تحديداً إلى بلعام، ويذكر ياقوت أن بالعة من قرى البلقاء من أرض دمشق كان ينزلها بلعام بن بعور المنسلخ الذي نزل فيه قوله تعالى.
وواضح أن بالعة وفق هذا التحديد هي غير بلعام قرب جنين كما حدّدها زكريا محمد، وغير فاثور التي جاء منها بلعام كما ورد ذكرها وتفسيرها في التوراة. فلا هي على نهر الفرات كما تقول الرواية التوراتية ولا في نجد بالقرب من المدينة المنورة، كما نستخلص من دراسة نص التوراة في ضوء جغرافية الجزيرة العربية. ويبقى أن شخصية المنسلخ التي يشير إليها القرآن أقرب إلى شخصية بلعام كما تحدّدها الرواية الكنعانية منها إلى شخصيته كما تحدّدها الرواية التوراتية. كما أن الإشارة إليها في القرآن ترجح أن الرواية التوراتية غير صحيحة وأن الرواية الكنعانية هي الأكثر دقة.