عبرات الأقلام
توقّف كثيرون عند “الكتابة” ورموا بدلائهم في متّسع التعبير عن هذا الجانب عساهم يمتحون الماء النّمير, ولا سيما أن التعبير والقول والتواصل كان شفاها في سابقات العصور. وقد كان لابن خلدون في فصله الثلاثين ضمن مقدمته المشهورة ما يؤكد أن الكتابة من عداد الصنائع الإنسانية, إذ يقول: (الكتابة من خواص الإنسان, وأيضاً فهي تطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض، وتكون بالتعليم وعلى قدر من الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب…).
تلك الأغراض والمرامي التي ترى لذاتها تواصل وعي تبادلي تشاركي قوامه جهد بشري عبر نزعة كتابية تتجاوز أحادية النزعة الشفاهية حيث التوجه صوب فعل متصاعد بالمشاركة في تاريخ كوني عام، وهذا ما أشار إليه الجاحظ في مفتتح كتابه / الحيوان/ عن): أن حاجة الغائب موصلة بحاجة الشاهد , لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى …) إذ العلم في زيادة , والزيادة تحملها الكتابة وتجسّدها في آن 0
فالوعي الكتابي تأكيد لمكانة الآخر وقيمته في جمالية الحضور والتلاقي وفق مدارات التثاقف الإنساني النبيل الهادف خيراً 0
هذا الخير الذي يقتضي بعمقه الإنساني دافعاً ومسؤولية أن يشرق عبرات لدرر كلمات , كل واحدة لا تقلّ مكانة عن قارورة عطر لها مشمومها الكامن بها خصيصة لفظية وفق صنعة حاضرة بالطبع دون تكلف , وبالسجية دون توعر , وهذا يكون بالدربة والمران وسعة الاطلاع , وفيض المصادر والمراجع , واستثمار الوقت عبر الصبر والجَلد بكل ما لذلك من تبصّر و تأمل وبعض مقايسات , ومحددات مراجع ومصادر حتى يغدو القول فيما تراءى صناعة ألفاظ إنما هو في الأسلوب مهارة تعكس دقة قول ( بارت) الأسلوب يساوي الرجل , ضمن اصطفاء العبارات , وسلاسة التعبير , ورتابة المضمون عبر أساليب وأنماط وصيغ حفلت بها نوابع الكتابات البلاغية , أو ما أطلق عليها لاحقاً الأسلوبية الحديثة 0
ويقتضي مضموناً فيه التملي معرفياً وفق روائز منطقية , وحقائق علمية , وثراء معرفي وما يغتني به ذلك المضمون من قيم معرفية وفكرية وفلسفية مضافة لأن – وكما – مرّ في قول ( الجاحظ) هو تلاقي الأدنى بالأقصى , وأقربه المرسل والمتلقي بسرعة الضوء حيث / الشابكة / واجتماع القوم كلهم في حيّز وعي إنساني مكانه في المعطى الجديد /كلنا جيران في عالم واحد / إذ القرية الكونية 0
إن هذا الاتساع في تحقيق التناغم الجميل ما بين قدح الإبداع وميض فكرة تجسدها مجامر الكلمات على قراطيس أو صحائف وخاطر المتلقي الذي غناه إضافة وعي يستزاد بها .. هذا الاتساع يتطلب أن تكون الكلمات والعبارات في ثنائية البوح والصوغ معنى ومبنى أن تكون مبعث مسؤولية أكثر إبداعاً تحاكي قيمة ما قاله الأقدمون في القلم آلة , وفي القلم واسطة تعبير : ” إنّ القلم ثمراتها الألفاظ , وبحرها الحكمة , وأنه بريد القلب , ومطايا الأذهان , وأنف الضمير , وسفير العقل ورسوله الأنبل .. و أن عبرات الأقلام في خدود كتبها أحسن من عبرات الغواني في صحون خدودها ..”0
يا لَلقلم .. الكتابة .. الإبداع .. في إيحاءات القلم وما يرشح به واسطة في يد مستخدمه , وإرادة نتاج في وقع حضوره !
هذا الحضور الذي هو انعكاس صاحبه أسلوباً ومضموناً إنما يؤكد صدى كينونة الذات المبدعة, وغناها المعرفي , وسعة ثقافتها , ووفرة حصيلتها في مقاربة العلوم على اختلافها ,ومدى عمقه في حقيقة أنه /ابن بجدتها / مبدعاً مثقفاً وليس الإنشغال في لملمة كلمات قاربها خريف ..
ولعل ارتحالها على غاربات الأمواج ,والتفاتة صوب الماضيات من آراء وفكر هي أكثر من مؤشرات , وأعمق من دلالات في رزانة الصوغ , وحذاقة الحرفية , ونبوغ التفرّد .. كل ذلك يتراءى لوحة مزركشة عبر/ دستور الرابطة القلمية / في المهجر توصيفاً للأدب والأديب والرسالة وحيثيات الإبداع الحق : “وللأديب الذي تكرمه , هو الأديب الذي خصّ برقة الحسن , ودقة الفكر , وبعد النظر في تموجات الحياة وتقلباتها , وبمقدرة البيان عما تحدثة الحياة في نفسه من التأثير ..” 0
إن الكلمات الطافحة بعبق الإبداع الثاقب في الغنى الثقافي البحتي والمتواصل هو اللؤلؤ الحاضر في محار العقل والوجدان , والمطمئن عبر خيط شعوري دافق أصالة إحساس متوهج …
إنه بوح كلمات لجيد الزمان قلادة .. ولوجنات الجمال عبرات ودلالة 0
نزار بدور