ارتفاع الأسعار في سورية.. هل ثمة ما يمكن أن يفعله المواطن؟
د. إبراهيم علوش
يصعب التحدث بالسياسة أو بغيرها بشكل عقلاني مع من وقع بين مطرقة ارتفاع الأسعار (ارتفع مؤشر أسعار المستهلك حوالي تسعة أضعاف منذ العام 2010، بحسب المكتب المركزي للإحصاء)، من جهة، وسندان ثبات الرواتب والمستحقات، من جهةٍ أخرى، لا سيما بالنسبة لعامة الموظفين، فما يجري ليس مجرد ارتفاعٍ في الأسعار، بل حالة تضخم، أي ارتفاعٍ عامٍ ومستمرٍ في معدل الأسعار، وثمة فرق بين الحالتين، إذ ليس كلُ ارتفاعِ أسعارٍ تضخماً، ولكن كلَ تضخمٍ يعني ارتفاع معدل الأسعار (وليس كل سعر بالضرورة).
على الرغم من ذلك، فإن تشخيص أسباب هذه الظاهرة، الاقتصادية بالأساس، لا يمكن فصله عن السياسة، سواء من حيث الأسباب أو الحلول. لكن حتى نفهم أولاً كيف يحدث التضخم، لا بد من القول إنه ازدياد كمية النقد في التداول بمعدل أسرع من ازدياد كمية السلع والخدمات المتاحة في الاقتصاد، ونظرياً، يمكن أن يحدث التضخم لو انخفض كلاهما أيضاً، إذا انخفضت كمية السلع والخدمات أكثر مما انخفضت كمية النقد في التداول.
مثلاً، الحصار الاقتصادي على سورية، والعقوبات المفروضة منذ ما قبل 2011، تهدف لخنق الاقتصاد السوري من خلال دفع عجلاته للتوقف عن الدوران، أي لتقليل كمية السلع والخدمات المتاحة، المحلية والمستوردة، مقارنة بكمية النقد في التداول، وهذا يؤدي بالضرورة لارتفاع الأسعار.
كذلك، فإن قسماً كبيراً من المنشآت الإنتاجية والبنى التحتية والصوامع والمصانع وملايين الشقق السكنية تم تدميرها كلياً أو جزئياً بسبب الحرب، وهذا يساوي انخفاض كمية السلع والخدمات (ومنه الخدمات السكنية) المتاحة في الاقتصاد بالنسبة للكتلة النقدية المتداولة، ما يؤدي لارتفاع الأسعار.
لعل أحد أهم المدخلات في أي اقتصاد هي النفط والغاز ومشتقاتهما، مثل البنزين والمازوت والغاز إلخ.. وبالتالي فإن السعي لمنع وصولها لسورية ينعكس على كافة القطاعات الاقتصادية بزيادة كلف الإنتاج (النقل والشحن وإنتاج المصانع والتخزين والكهرباء، إلخ..)، ما ينعكس تأثيره في أسعار الكثير من السلع والخدمات، لا سيما أن مستوردات النفط والغاز تسعَر عالمياً بالدولار، والإنتاج المحلي من النفط والغاز لا يكفي، وشرق الفرات، حيث توجد أهم احتياطيات النفط والغاز (والأراضي الزراعية والثروات المائية) السورية المستثمرة حتى الآن، غير متاح الوصول إليها حالياً لأسباب سياسية يصعب فصلها عن الحصار الاقتصادي.
فإذا استنزفت الدولة احتياطياتها من العملة الصعبة في شراء النفط والغاز (أو غيرهما)، فإن ذلك بحد ذاته يضعف الليرة السورية إذا لم تقابله عوامل تزيد من عوائد العملة الصعبة مثل التصدير والسياحة والاستثمار الخارجي (الأمر الذي تعوقه عوامل سياسية أساساً في الوقت الحالي)، لأن سعر الليرة في السوق الموازية يتأثر سلباً بنضوب احتياطيات العملة الصعبة لدى القطاعين العام والخاص، ويخلق توقعات سلبية بشأنها، وهذا يقلل من الطلب عليها، ويؤدي لتآكل قوتها الشرائية، أي للتضخم.
هنا نصبح بحاجة لليرات سورية أكثر لشراء المستوردات، ومنه السلع المهرّبة، لا سيما الكمالية منها، وهذا يؤثر على مؤشر أسعار المستهلك بالزيادة من خلال المستوردات، ومن خلال توقع استمرار ارتفاع الأسعار، ما دام لا يوجد أفق لحل سياسي ما برح أعداء سورية يعيقونه في سعيهم للتصعيد بشتى الطرق.
هنا تدخل عوامل داخلية على الخط لزيادة الأسعار، مثل: 1) الفساد، الذي يزيد من كلف الإنتاج والاستهلاك، ويقلل من الكمية المتاحة من السلع والخدمات عند وجودِ فسادٍ أو سوء إدارة في المؤسسات الإنتاجية والخدمية العامة والخاصة، 2) الاحتكار، الذي يؤدي لارتفاع الأسعار لأن المحتكر يملك التحكم بالكمية المعروضة منها، سواء باحتكار مدخلاتٍ إنتاجيةٍ أم منتجاتٍ استهلاكية، 3) تهريب الدولار خارج سورية، للاستفادة من أسعار الفائدة المصرفية المتصاعدة على الإيداعات بالدولار، في لبنان مثلاً، وهو ما يقلل من الكمية المعروضة منه، ويضعف الليرة السورية وقوتها الشرائية.
يمكن أن نضيف الكثير، لكن العبرة هي أن سورية تتعرض لحرب اقتصادية لا تقل خطورةً عن الحرب الميدانية، ولحربٍ نفسية تستهدف اقتصادها وليرتها فيما تستهدفه، ولا بد من استراتيجيات داخلية لمواجهة مثل هذه الحرب وللتأقلم مع آثارها، ولا شك في أن الدولة السورية ومؤسساتها تفكر ليل نهار باجتراح مثل هذه الاستراتيجيات، لكنْ هل يعفي ذلك المواطن من التفكير بدوره في مواجهة مثل هذه الحرب الاقتصادية؟.
من البديهي أن مواجهة الفساد والتسعير الاحتكاري والتهريب، ووضع استراتيجيات فعالة لمواجهة الحرب الاقتصادية والحصار، من الأشياء التي تسمع المواطنين السوريين يطالبون الدولة بها، وهذا من حقهم بكل تأكيد، لكن ثمة أشياء بسيطة بالمقابل يمكن أن تساعد، ولو جزئياً، بضبط ارتفاع الأسعار، لو قام بها عددٌ كافٍ من المواطنين، سواء بشكلٍ فردي أم من خلال المنظمات الحزبية والجمعيات المدنية، مثل ما يلي:
1) التمسك بالليرة السورية كمسألة انتماء وطني، وعدم الانسياق خلف سلوك القطيع الذي يستهدف دفع المواطنين لتبديل ليراتهم بقطع أجنبي تحت ذعر الإشاعات المغرضة.
2) شراء المنتج الوطني بدلاً من المستورد أو المهرب حيث أمكن، وحيث يكون متوفراً بدرجة معقولة من الجودة.
3) قيام الصناعيين في مختلف القطاعات بحملات لتحسين جودة منتجاتهم كقضية انتماء وطني، وكمصلحة فردية وجمعية لهم.
4) تركيب خلايا طاقة شمسية للاستعاضة عن المحروقات والكهرباء حيث أمكن.
5) المشاركة في الحملات التطوعية، خصوصاً من قبل الشباب، لإصلاح البنية التحتية والمنازل وتقديم الخدمات المجتمعية، لأن ذلك يزيد من كمية الإنتاج المتاح في الاقتصاد.
6) تنظيم حملات شبابية وشعبية لمقاطعة المنتجات الأمريكية والتركية بالأخص، حيث توجد لها بدائل معقولة، والتعريف ببدائلها من المنتجات الوطنية والحليفة، أو غير المعادية على الأقل.
7) الإخلاص في العمل، مهما بدا بسيطاً أو عادياً، يزيد من كمية السلع والخدمات المتاحة في الاقتصاد، ويحسن من جودتها، ويخفض من الأسعار وكلف الإنتاج، وهذا شيء يمكن أن يقوم به العامل والموظف والمدير والمسؤول في مكان عمله أثناء أدائه وظيفته أو واجبه.
8) دعوة المغتربين والأصدقاء العرب والأجانب لزيارة سورية، ومساعدتهم في تنظيم رحلاتهم لسورية، لأن ذلك يزيد من القطع الأجنبي المتداول.
9) دعوة التجار في المجتمع المحلي للقيام بحملات تخفيض أسعار، وإبراز الحالات التي يتم فيها ذلك فعلاً بشكلٍ إيجابي على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يمثّل دعاية مجانية بالنسبة لهم قد تعوضهم وأكثر عما يخسرونه من تخفيض أسعارهم.
10) محاربة الفساد في أنفسنا قبل التشهير فيه عند الآخرين، وهو ما لا يلغي حق الناس بنقد الفساد طبعاً.
ويمكن التفكير طبعاً بعشرات المقترحات الأخرى، ولكن العبرة هي: من الأفضل أن تشعل شمعة واحدة، من أن تلعن الظلام ألف لعنة.