لماذا ليس الآن!؟
د. نهلة عيسى
ابدأ الكلام بـ “كان يا ما كان يا قديم الزمان”, فتفاجئني حفيدة أختي ابنة الخمس سنوات بالسؤال: دائماً.. دائماً كان, لماذا ليس الآن!؟ فيداهمني الوجوم, بل الذهول, وأقول: هل تصدقين, يا “ليلي” صحيح لماذا كان وليس الآن!؟ فتنظر إلي باستغراب من ينظر إلى معتوه, وترد: أنت من تقولين!! فأجيب كالملدوغة: سامحيني أنا ابنة تاريخ طويل من الوقوف على الأطلال, حيث كان خلاصة الزمان, وسترة نجاة من الإجابة على سؤال: وماذا الآن!؟.
تنظر حفيدة أختي إلي باستغراب, وفي الحقيقة ازدراء, وتعود لتسألني بإلحاح: بعد كان, ماذا يجري الآن؟ فتنتابني البلاهة, وأشعر أني كالفأر في مصيدة, لا قوة ولا حول, والكلام عن واقع الحال, ليس مسراً, والطفلة تنتظر مني أن ألوّن لها الحياة, وأن أجعلها حديقة ألعاب, أراجيح, ودمى, وبالونات, ووجوه ضاحكة محبة, فبماذا أرد على صغيرتي ابنة الشهيد, وهي تسألني عن الآن!؟
سأرد, يا صغيرتي: ربما تبدو أيامنا وكأنها ترتدي قناع الفرح في حفلة تنكر, لكن وبصدق كل يوم في بلادي يلامس أهداب العيد, رغم أنه لا يقبض عليه, لأن الوجع رغم التعالي والتسامي, باد في تفاصيل التفاصيل, حيث لا تستطيع أن تخفيه الابتسامات ولا الهدايا ولا الضحكات المرقعة بخرق المكابرة, ولكن صدقيني هذه المكابرة, بحد ذاتها عيد, أليس رائعاً بعد ثماني سنوات من الموت المنهمر أننا ما زلنا قادرين على أن نكابر!؟.
يا صغيرة: في بلادنا كل لحظة نحتفل بالحياة, نحن الناجون من الموت، من حرب لم تنته بعد, وقد حولنا جنودنا على الجبهات وجرحانا وقبور شهدائنا إلى مقامات, لأننا نؤمن أن ما ترحل البحار بحثاً عنه, موجود هنا في هذه الأمكنة, ولأننا حالما ندخلها, نشعر أننا ندخل الجنان, بشر مثقلون بالوجع, ولكن أيضاً بالفخر, الذي يتدلى من ملامحهم كالوسام, ويبحثون عن الدواء في ظل رفرفة علم البلاد!.
يا صغيرتي, منذ أسبوع كنت في زيارة مستشفى “تشرين”, وفي إحدى زوايا المقام “المستشفى”, توسدت الكرسي إلى جانب جريح يشبه الشجرة, جذعها كرسيه المدولب, وعلى فمه ابتسامة والكثير من الحكايات, وقد خفت أن أرد على الابتسامة بالكلام والسلام, فتختفي الحكايات, وفوجئت به بلا مقدمات, يسألني: عاشقة أم معشوقة؟ فقلت له: لا هذه ولا تلك, أنا ببساطة ياسيدي, عابرة حب, ولكني مقيمة وجع, فرد وتجاعيد التجربة رغم صغر السن تقطر حكمة: الحب العابر أصدق أنواع الحب، ففرحت, ثم وجمت, وألتفت إليه متسائلة: هل ينطبق ذلك على الوطن؟ فأجابني: كل حبيب هو وطن, ألم يغادر “الشهداء” جدران عالمنا, ليدخلوا في الريح دفاعاً عن الحبيب!؟. فهززت رأسي موافقة ودخلت مع الشهداء الريح, ليحط بي الترحال في مقام أحد الشهداء, وهناك تضايقت, لأنهم أرغموني على ارتداء عباءة, تجعل من الشهيد ولياً وليس مقاتلاً أبياً, وتحول استشهاده من فعل إنساني عظيم, إلى مشيئة إلهية, لا قدرة للبشر عليها, ولكني رفضت, لأن لزاماً علينا أن يكون الشهيد البشري.. قدوتنا, وليس الشهيد الولي.. مبكانا! تضايقت, ولكني صمت, لأنني أعرف أن العباءة قناع يفرح له البسطاء, لأنه يتيح إعلان الضعف, الخوف, ورمي الحمول على عتبات من يحسونهم أهلاً لرفع الحمول, وجميل أن يصبح الشهداء في بلادي وليس مدّعو الدين.. حمال الحمول, ولذلك ومن وحي العباءة, وفي حضرة الشهيد, همست للريح: سنقول للباكين في كل المقامات, أن كل جبهاتنا ميسلون, وحطين, وأن كل واحد من الواقفين عليها, فيه “الحسين, وصلاح الدين, ويوسف العظمة, وجول جمال” وهو يحلف بالتين والزيتون, وطور سنين, وهذا البلد المحزون, أن سفائن القتلة ستغوص تحت الموج, وملوك الفرنج سيغوصون تحت السرج, وراياتهم السوداء ستدوس أقدام جندنا.. وجهها المعوج!.
بجد, ماذا كان علي أن أخبر الصغيرة عن الآن, وهي ابنة شهيد كملايين الأطفال في بلادي, ينتظرون على الأقل إجابات صادقة على دماء أبائهم؟ هل أكذب عليها؟ أم أقول الحقيقة؟ أم اقتدي بها, وأسعى لأسأل معها, كان فعل ماض ناقص, تعالوا نجيب ليس فقط عن ماذا الآن, بل أيضاً عن ماذا بعد ألف آن, حينها مؤكد لن يؤرقنا السؤال, لأن بلادنا رغم كل العوار ستكون بخير!؟