الذكرى .. وتجديد قراءة المواقف
د. صابر فلحوط
الثامن والعشرون من أيلول، موعد متحالف مع القدر، يتجدد كل عام لينعش الذاكرة الجمعية لشعبنا العربي في الدار القومية الواسعة، ويحفّز الأجيال الصاعدة على سلّم القادمات من الأيام لإعادة قراءة الأحداث، ومواجهة المصير على ضوء الانتصارات والانتكاسات السابقة..
ولعل ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر في هذا التاريخ 28/9/1970،
إضافة إلى ذكرى سلب لواء اسكندورن، وكارثة تقسيم فلسطين، وصولاً إلى “ثالثة الأثافي”، وهي الحرب الكونية على سورية، وما نبت عن محيطها من صفقة القرن وتردي، بل تشظي الواقع العربي بين جامعة عربية تستأجر جلاديها، وتدفع ثمن سلاح قاهريها، ومستبيحيها، الأمر الذي يستوجب ألا نمل من أن نضع باستمرار تحت نظر الأجيال التي ولدت بعيد معظم هذه الأحداث صورة معاناة جماهيرنا في صراعها العنيد من أجل تحرير الكرامة. فبعد مرحلة التحرر الوطني الذي شهدته معظم أقطار الوطن العربي في عقدي الأربعينيات والخمسينيات، والانتصارات التي حققها شعبنا في مصر العربية في مواجهة العدوان الثلاثي (الصهيوني – البريطاني الفرنسي) وتحقيق الوحدة بين سورية ومصر، وقيام الجمهورية العربية المتحدة التي مثّلت مركز إشعاع مدهشاً في التاريخ القومي، واجه شعبنا نكستين شكّلتا طعنة نجلاء في قلب الزعيم عبد الناصر، وقلب كل مواطن عربي، وهما:
1- الانفصال الأسود /1961/ الذي قصم ظهر الوحدة التي كانت عنواناً للمجد القومي والانتماء العروبي.
2- نكسة حزيران 1967 التي أصابت الأمة العربية بحالة من الإغماء والدوار، والذهول مما استوجب أن تستنخي نشاماها في مصر وسورية، وكل ساحة تنبض فيها إرادة وطموح لتحرير الأرض واستعادة الحقوق والكرامة التي أصيبت بعطب..
غير أن الأقدار لم تمهل الزعيم عبد الناصر ليكمل بناء حائط الصواريخ لاستنزاف العدو الصهيوني تمهيداً للمنازلة الكبرى، وتعضيد الجبهة الداخلية التي كادت الرجعية النفطية وأسيادها أن تخردق منعتها، فكان الرحيل المدوّي للزعيم، وهو يداوي الجرح النغّار بين الثورة الفلسطينية وسكاكين الأردن في أيلول الأسود الذي كاد أن يخرج القضية من التاريخ!!.
بيد أن شعبنا العربي، الولود والمعطاء، على طول عصوره العريقة، قد وجد في القائد المؤسس حافظ الأسد المرتجى الأقدر، والأمل الأمثل في استيلاء القوة الجبارة، من قلب الحالة التي سادت الأوضاع العربية بعد رحيل الزعيم عبد الناصر. فكانت وقائع حرب تشرين التحريرية أعظم أيام العرب في القرن العشرين بالرغم من خيانة السادات ورهنه أرض الكنانة بما فيها من نيل وأهرام وتراث (لعبد الناصر) لصديقه هنري كيسنجر ومغادرته الميدان في لحظة انتصار الجبهتين الشمالية والجنوبية بشكل أذهل العالم، وجعل الجيش الصهيوني الذي كان يصفه الإعلام المعادي بأنه لا يُقهر!! في حالة صراخ واستنجاد.. ثم جاءت حرب الجولان وجبل الشيخ التي كانت امتداداً باسلاً لحرب تشرين، والتي استمرت حتى تحرير القنيطرة “عاصمة الجولان”، ورفع العلم الوطني في وسطها بيد القائد المؤسس حافظ الأسد باني سورية الحديثة، والذي كرّسته الميادين والمواقف القومية وريثاً نضالياً للزعيم عبد الناصر وأملاً ومعلماً متوهجاً على الدوام في استعادة الأمة أمجادها بعد السنوات العجاف من تاريخ صراعها مع الاستعمار والصهيونية.
ولما كانت سورية قد وضعتها الأقدار على لائحة الاستهداف الدائم من جانب الامبريالية والكيان الصهيوني والرجعية العميلة لهما، فقد تكثّفت المؤامرات على سورية العربية، والتي كان أخطرها وأشدها استنزافاً ودماراً للحضارة بشراً وحجراً على مختلف المستويات، وهو ما تمثّل بالحرب الكونية عليها، والتي تمت مواجهتها بمثلث الصمود الأسطوري – شعب عظيم، وجيش إعجازي، وقيادة مفولذة الأعصاب – عبر حرب وطنية عظمى أظهرت المعدن الأصيل للمواطن العربي السوري، وفضحت في الوقت نفسه من حملوا الهوية الوطنية، وقد غادروا سفينة الوطن عند أول موجة استهدفتها!!.
إن سورية العربية تتحمّل بتضحيات شعبنا، وبسالة جيشنا، وصمود قيادتنا، مسؤولية عربية وأممية في مواجهة الإرهاب الذي أرعب الشعوب، ونغّص عيشها، وأرجف أعصابها في أربع جهات هذا الكوكب، ولا بد أن يكرّس التاريخ بلدنا المدافع الأشرس، والأصلب عن حقوق الشعوب وكرامتها في مواجهة الصهيونية صاحبة بدعة “الربيع العربي” تخطيطاً وتنفيذاً، وسفكاً للدماء بالتعاون مع العدوين الألدّين للأمة العربية: أمريكا والرجعية النفطية.
ويقيني أن انتصار سورية على الإرهاب سوف يرشحها شريكاً أساسياً في رسم خريطة عالم ما بعد الإرهاب والاستكبار والقطبية الأحادية التي تحاول منذ انتهاء دور (الكبار في هذا العالم) اعتقال حريات الشعوب، ومصادرة كراماتها وأدوارها لصالح الرأسمالية الحاقدة والصهيونية المتوحشة في ذكرى الزعيم جمال عبد الناصر الذي قال الشاعر الأكبر محمد مهدي الجواهري في رثائه /1970/:
(أكبرت يومك أن يكون رثاء
الخالدون عهدتم أحياء)
(أو يرزقون أجل وهذا رزقهم
صنو الخلود وجاهةً وعطاء)
(قد كان حولك ألف جار يبتغي
هدفاً ووحدك من يريد بناء)
(ياأيها البطل الشهيد أمضّه
شوق فزار رفاقه الشهداء)
لا بد من أن تنحني القامات والهامات إجلالاً لروحي الزعيمين العظيمين، جمال عبد الناصر وحافط الأسد، اللذين خطّا نهجاً للأجيال العروبية المناضلة، متحالفاً مع قيم الرجولة والخلود.