ثقافةصحيفة البعث

“طميمة”.. كوميديا كشف المستور

الخوف يحول الحياة إلى لعبة “طميمة” تلك التي يلعبها الأولاد ببراءة الطفولة، تستحيل مع الكبار لعبة تخفٍ وهروب قسري من واقع رفضنا الاصطدام به والتعايش معه، أو مواجهته لأحداث التغيير فيه قبل أن يبدل أنماط حياتنا، فالمسؤول يتخفى وراء “فيميه “زجاج سيارته، وإنسان بسيط يتخفى في غرفة فقيرة بعد أن دُمِّر منزله ولم يبق له منه غير ذكريات معبأة في صناديق كرتونية، ولاجئ يتخفى مع أولاده في خيمة، وغيرهم يتخفون خلف أصبعهم، هكذا دفعت الأزمة الجميع إلى الاختباء والهرب من واقع تؤدي مواجهته إلى تعرية وفضح حقيقة جميع المختبئين، هذا ماعملت عليه مسرحية “طميمة” نص شادي كيوان وإخراج عروة العربي التي زارت مدينة حمص في عرضين متتالين على خشبة مسرح مديرية الثقافة، جاءت لتعرية حقيقة كل واحد فينا، تلك الحقيقة التي أخفيناها عن بعضنا سنوات ثمانية وأختبأنا وراء أشياء زائفة زادت الحال تأزما واغترابا حال تزعزعت فيه حياتنا ماديا ومعنويا، وتخلخلت منظومتنا الأخلاقية والقيمية.

شبان ثلاثة جمعتهم صحبة نقية نقاء الطفولة، وفرقتهم الأزمة، قبل أن يعود الحنين ويجمعهم من جديد في غرفة صغيرة مطلة على جبل قاسيون، لكن بعد سقوطهم أخلاقيا ووجوديا، عقب أحداث عرتهم وكشفت تخفيهم وراء صداقة زائفة حملها تيار الواقع المستجد. في هذه الغرفة التي تحتوي على مدفأة بلا مازوت ومغسلة بلا ماء وكرسيين وسرير بسيط وخزانة بمرآة مكسرة فيها نشاهد تفاصيل حكايات الكثير من السوريين بمفارقاتها المحزنة وتناقضاتها المؤلمة.

سيف الذي دمر منزله واستأجر غرفة صغيرة مطلة على جبل قاسيون، استغل هجرة  صديقه طارق إلى ألمانيا لإغواء حبيبته ليلى، متجاهلا تضحية نايا الفتاة التي تحدت أهلها وقبلت الهرب مع شاب من غير طائفتها، وكذلك فعل صديقهم حسام الذي ركب قطار الأزمة مع المنتفعين والانتهازيين ليجمع ثروة، يحاول استغلال هجرة طارق لإغواء  ليلى التي مثلت وطنا يفر من غدر الذئاب المفترسة في استحضار جميل لحكاية ليلى والذئب عبر أغنية ختامية معبرة عن ضياع البلاد مع ضياع ليلى.

شبان ثلاثة لخصت أزمتهم أوجاع شعب شتته الحرب وغيرته الأزمة في عرض مسرحي تقوم بنيته على تشخيص الواقع بأسلوب كوميدي راقٍ يخلق صراعا دراميا  بين الموقف والشخصيات والقيم عبر حالة جدلية تمرر، على مستوى الوعي والشعور، كوميديا الإنسان المقهور حيث يتم توظيف آليات التهكم والتغريب والفكاهة والانزياح والمفارقة للتعبير عن فلسفة إنسانية تكشف اندحار الإنسان تراجيديا وسقوطه قيميا وأخلاقيا. كفاح الخوص، كرم الشعراني يزن خليل، ممثلون حولوا خشبة المسرح إلى مقطع صغير من واقع بلغته وأنماط سلوكه، تمكنوا من لملمة تلك الأفكار المبعثرة وتحويلها إلى واقع عاشه كل واحد فينا بطريقة أو بأخرى، فنسينا خلاله أننا أمام فرجة مسرحية، ليطوفوا  بنا في واقع مرير تباينت الرؤى حوله، فمنهم من رأى الجانب الفارغ من الكأس ومنهم من رأى النصف الممتلئ منه، انقسمت الآراء حول ملامحه وأصبحت ألمانيا جزءا من يومياتنا كسوريين في داخل البلاد وخارجها، نفاضل بينها وبين وطن خلقنا به ونشأنا في أزقة حاراته وضيعه لكننا حملناه شوقا في غربتنا وهجرتنا.

لجأ العرض إلى مفردات مسرحية قربته من الجمهور عبر محاكاة عفوية للواقع باستخدام الهابط والفج من الألفاظ والتعابير المتداولة بين العامة من الناس، والأزياء الملائمة لكل شخصية، والتوظيف الفاعل للإكسسوارات العصرية المرافقة للشباب من كاميرا وهواتف وكمبيوترات محمولة، لتشكل عناصر مساعدة للممثل في التفاعل مع المشاهد التي جسدت بتلقائية تؤكد الفهم العميق لكل شخصية، والدور الذي تؤديه على الصعيدين الفيزيائي والإيحائي، لتقدم في النهاية عرضا متكاملا فنيا ومتسارعا إيقاعيا افتقدنا إليه سنوات عدة.

آصف إبراهيم