فيلم أمريكي طويل
منذ أن أعلنت نانسي بيلوسي فتح تحقيق لتوجيه الاتهام إلى دونالد ترامب، أي بدء إجراءات العزل، بدأ موسم “سيلان إعلامي” جديد لكتّاب ومحللين استراتيجيين يتوزّعون بين مرتاح وملتاع، الأول يبني آمال غده الشخصي أو غد بلاده على حتمية عزل الرجل، والثاني يضرب أخماساً بأسداس خوفاً من ذلك، متناسين معاً أن البدء بالإجراءات لا يعني الوصول إلى نهايتها المحتومة بالضرورة في ظل موازين قوى معلنة ومستترة لم تفصح عن قرارها النهائي بعد.
وإذا كان حصول هذا “السيلان” مفهوماً بالمطلق، لأن الحدث الأمريكي هو، في التأثير والارتدادات، حدث محليّ في كل دولة في العالم، فإنه، أي “السيلان”، مفهوم أكثر في بعض الدول، مثل الصين أو روسيا أو الاتحاد الأوروبي، نظراً لقدرتها على الاستفادة من التغييرات الطفيفة في كيفية تنفيذ السياسة الخارجية بين الديمقراطيين والجمهوريين – لعبة الشرطي الجيد والشرطي السيئ – إلا أنه يبدو “سيلاناً” بائساً في حالة بقية الدول، والعرب على رأس قائمتها، فبين “الأحمر” و”الأزرق”، أو “الفيل” و”الحمار” – شعاري الحزبين- يقع العرب، حكاماً ومحكومين، خارج معادلة الاستفادة أو التأثير، وداخل معادلة الخاسر في الحالتين، لأن القضايا الخارجية بالمجمل لا تتعدّى نسبة تأثيرها الصفر في الأحداث الداخلية، على رأي باحثين أمريكيين، والأهم أنها لا تتحدّد بسياسة رئيس بحد ذاته، بل هي سياسة واحدة للدولة العميقة الحاكمة بكل لوبياتها، وكارتلاتها الاقتصادية والعسكرية الهائلة، وحزبيها الرئيسيين المتنافسين اللذين ينفذانها بأمانة مع فارق في التكتيك المتبّع في تحقيقها – مثال أوباما اللطيف وترامب البلطجي – لكنهما، أي الحزبين المتنافسين، يختلفان على قضايا داخلية حقيقية، مثل الحق في الإجهاض أو حمل السلاح أو الرعاية الصحية، كما على قصص الهوية والثقافة الأميركية والهجرة والاقتصاد.. إلخ.
وتتضح صحة ذلك من مراجعة بسيطة لبعض ما أُعلن من أسباب التحقيق مع ترامب، فقضية الخروج عن القانون التي رفعتها بيلوسي في وجهه هي مهمة وفضيلة كل رئيس أمريكي سابق أو لاحق، جمهوري أم ديمقراطي، لكنها أصبحت تهمة للرئيس، لأنه حاول جعلها فضيلة في أمريكا، في الداخل، فيما تبدو جملتها التي تلتها، وهي: والآن يصدّرها إلى الخارج مجرد لاحقة لا لزوم لها، ومثلها قضية المقايضة، أي تلويح ترامب ضمنياً بتجميد المساعدات التي أقرّها الكونغرس كأسلوب ضغط على الرئيس الأوكراني زيلنسكي، فهي لم تثار، وتتحوّل إلى تهمة، إلا لأن المقابل فيها يتعلق بأمر داخلي أمريكي، فلا بيلوسي، في الكونغرس، ولا غيرها في بقية المؤسسات الأمريكية، سأل ترامب عن مقايضاته العلنية مع الخارج، وأشهرها مقايضته حكام الخليج بين أموالهم وكراسيهم.
وبكلمة أخرى، أكثر إيجازاً، لم تبدأ إجراءات العزل بسبب بلطجة ترامب على العالم، فتلك سنّة القوم هناك بأجمعهم، بل لأنه سعى للبلطجة في الداخل، وأراد إدارة أمريكا كشركة خاصة به، متجاهلاً حقيقة أنها شركة مساهمة، وأنه بذلك يستفزّ الشركاء الكبار الآخرين.
في المحصلة، هذا فيلم أمريكي طويل، وكعادة هذا النوع من الأفلام، سنشهد الكثير من الإبهارات والبهارات والأكشن، أما مشهد النهاية، فستكتبه موازين القوى الداخلية ومصالح المؤسسة الحاكمة وكيفية رؤيتها للمرحلة القادمة، والحرب التي اتهم ترامب الديمقراطيين بجرّ أمريكا إليها، لا ناقة لنا فيها ولا جمل، لكن، ولأن نداء الحرب هذا لا يُصرف في الداخل الأمريكي، ولأن واشنطن اليوم في حالة عصاب بيّن لامبراطورية تكاد تفقد موقعها المتفرّد على قمة العالم، ولأن بعضنا وترامب كالجسد الواحد إذا افتُضح منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالمال والسيف والنفط والأهل والبنون، فالخشية أن يبادر هذا البعض لإشعال الحرب في مضارب أهله أو جواره لتحويل الأنظار عن الفضيحة الأوكرانية، وعندها ستكون ناقتنا وجملنا أول الضحايا من كومبارس هذا الفيلم الأمريكي الطويل.
أحمد حسن