ما قبل العيش بسعادة إلى الأبد!؟
د. نهلة عيسى
يطالبني صديقي د. عبد اللطيف عمران بالفرح, فاسأله: كيف؟ فيرد: أنت ناشطة اجتماعية, وصديقة الجنود على جبهاتهم, وأستاذة جامعية لأجيال عديدة, ومنك يستمد الكثيرون الأمل, لذلك فرحك واجب, فأقول له: الحقيقة رغم رغبتي بتقديم أوراق اعتمادي لديه (أي الفرح), وبالامتثال بين يديه, لكنني لا أعرف كيف يمكن أن يأتي الفرح بقرار, خاصة وأنه إذا تجرأ بعضنا على الفرح, طالتهم السهام بأنهم “ترانزيت” وطن, فالحزن يا صديقي في بلادنا أصبح سوبر ماركت يباع فيه النكد معلبات للغفران!!.
يا صديقي: طائرتنا ما تزال تحلق فوق حقول الظلام والنار, وحقائب ذنوبنا فوق رؤوسنا, ورغم أن الساعة تشير إلى قرب انبلاج الفجر, إلا أن “السيد حزن” ما يزال يمر بحضوره الطاغي علينا ويسيطر على الطائرة, ويلوح بعصاه أمام أعيننا ونحن بكامل صحونا, محذراً أن ننساه حتى لو أغمضنا, ويجبرنا على إطفاء الأنوار, والتسلي بتمزيق طوق النجاة الذي علمونا كيفية استخدامه لحظة إقلاع الطائرة, فهل تظن أنني إن أشعلت ضوء الاستغاثة سيجيبني أحد!؟.
يا صديقي لا تجبني, أعرف ما ستقول, ولكن صدقني نحن نمثل مسرحية, مملة بعض الشيء, مآسيها تدفع للتثاؤب, وضحكها يدفع للأسى, شبيهة بخالدة شكسبير “هاملت”, يتغير الممثلون ويبقى الجوهر واحداً, ولكني إكراماً لتفاؤلك سأحاول الركض بين الأعوام الثمانية المكومة كأثاث عتيق معروض للبيع, للبحث عن الفرح, وسأكتب عنه, حتى لو أحترق السطر الذي سأكتبه بعد لحظات, وصار بعضاً من رماد حقول العتمة التي فوقها نطير, بل سأكتب عن الفرح للنار التي بها نحترق, لعل ماء الحلم يطفئ لهب النار, ويخرجني من التثاؤب, لأدخل في الأفق لأكتشف من جديد, البيوت, الشوارع, الوجوه, الأشجار, الموسيقى, الأعياد, الأزهار, والابتسامات نصف الحزينة, لعل هناك شيئاً اختلف لا يدل على الصبر, بل يدل على الفرح!؟.
يا صديقي: لا أجيد دور الواعظة ونحن في حرب, لأن الطاووس في داخلي يخجل من نشر ذيله الملون أمام المتفرجين, فالواقع يشير إلى أننا نجر حقائب ثقيلة وأبواب الفرح ضيقة, والقول للناس بعد السنوات العجاف: يا الله أنتم كما كنتم, أو أنكم إلى ما كنتم عائدين, كذبة لن تصدقها حتى عجوز تتوسل الضحك عليها بادعاء أنها ما تزال صبية! لأن عصر الليمون على الفسيخ (السمك المقدد) ربما يجعل مذاقه مستساغاً, ولكنه لا يحييه, ولكن كما قلت لك: سأحاول, وسيكون وجعي مهمازاً يحفزني على الاستمرار في البحث عن الوطن الذي كان يشبهنا، طفلاً شقياً عنيداً، بارعاً بصنع أعظم وأجمل الأشياء, كبراعته بارتكاب الهفوات، لكنك رغم ذلك لا تملك إلا أن تعشقه, وتذوب شوقاً إليه،لأنه وحده يقينك، ووحده هويتك, وبطاقة تعريفك, وبطانية دفئك, ومهد أولى خطواتك, وكلماتك الواثقة أنها مُنتظرة: ماما, بابا, ليتحول من ناديت غيمة تمطر حباً لمجرد أنك فقط قد نطقت, على سذاجة ما نطقت!!.
سأحاول, والثلج يغطي القلب, أن أتلمس مثل ضريرة.. وجه الوطن، وأنا أعبر كل يوم عشرات الحواجز، يكشف فيها الستر عن بطاقتي الشخصية, وشجرتي العائلية, ومن أين أنا, وأين ولدت، إضافة لأسراري الصغيرة, وبضعة أشياء أخرى تعري عيوبي وهواجسي التي أخفيها بصمتٍ يخجل من الاعتراف بالضعف, كما يخجل صوتي من القول آه في وجه الوطن!.
سأحاول, رغم الغضب, ليس ادعاءً ولا حباً بالغضب، ولا رغبة مازوشية مني في معاقرته وتعاطيه، بل لأنني حقاً, وأظن الجميع مثلي, أعيش كالمحتضرة تتوالى أمام عيني الحقائق الجلفة لأيامنا المسمومة, ولأنني أيضاً في أحيان كثيرة بت عاجزة عن تلمس الملامح شبه المنسية لوطنٍ كان الجمال وحده من يعكس سماته، ويزهو أنه يحمل جيناته، وبصماته الوراثية.
سأحاول, رغم أن الحزن بات رفيق درب وعمر, طازج وحار كدمعة, وعازل للحلم, وحاجب للضوء, ذاك الذي يتغزل به الشعراء بأنه نهاية كل عتمة, رغم أن العتمة أصبحت بديلاً بائساً عن معرفة موجعة, وسيقان فرار من الزمن المشؤوم إلى النسيان, أو إلى وهم ما, أو ربما صدق عابر, يتوجنا يوماً ما, ملوكاً للفرح الذي لم يأت بعد!؟.