السعودية وتركيا.. الموجة الثانية
فيما تبدو الأنظار معلّقة على ما يمكن أن تؤول إليه الحرب في سورية واليمن وليبيا، تحوم التوقّعات الأهم، والأشد خطورة، حيال المرحلة القادمة، حول مستقبل كل من السعودية وتركيا، إذ إن البلدين ينطويان على مؤشرات تغيير قد لا تقل كارثية، وقد تعصف بمنطقة لا يبدو أنها مرشّحة – على الأقل في المدى المنظور – لأي نوع من الاستقرار أو الهدوء أو الراحة.. لقد خططت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، في مرحلة ما بعد غزو العراق، للتفرّد بالسيطرة الشاملة والأبدية على الشرق الأوسط، وإنهاء سائر مظاهر الاعتراض على وجودها العسكري المباشر وهيمنتها السياسية المطلقة؛ وكان أن جنّدت كلاً من الرياض وأنقرة، معاً وعلى مراحل مختلفة، في سبيل تحقيق هذا الهدف (بالضبط كلاً من الجناح الدولي الأممي للوهابية الحاكمة في السعودية، والمكوّن الأردوغاني للتنظيم الإخواني الدولي في تركيا)، ومن ثم اقتياد عالم المسلمين، بعد الإلغاء الاعتباطي لكل معطى قومي عربي، إلى الحظيرة الأمريكية.
بعد أكثر من ثماني سنوات على ما يسمى عاصفة “الربيع العربي”، وفي نهاية دورة رعب دموية جرفت الآلاف من القرى والبلدات والمدن، ومئات الآلاف من الضحايا، والملايين من النازحين والمهجرين والمهاجرين، وتحت شعار إحلال الديموقراطية الأمريكية، تنهض – وللمفارقة! – خارطة جيوسياسية معاكسة تماماً، عنوانها الرئيسي تآكل الحضور الأمريكي السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، أو على الأقل عدم جدوى هذا الحضور بانتظار إعلان موته نهائياً.. ذلك ما تدلل عليه، على الأخص، هزيمة التحالف السعودي الغربي في اليمن، والهجمات التي تعرّضت لها منشآت آرامكو في السعودية، وبداية اندحار المشروع الطائفي المدعوم خليجياً وأطلسياً في العراق، والنهاية المأساوية التي تنتظر المغامرة العثمانية الجديدة لحزب العدالة والتنمية في تركيا، وما ينطوي عليه ذلك كله من احتمالات الانتقال إلى موجة “ربيعية” ثانية سوف تضع أكبر حليفين للولايات المتحدة الأمريكية، وأكبر وكيلين وخادمين للاستراتيجية الأطلسية في المنطقة – تركيا والسعودية – في مواجهة تحديات قد تحمل طابعاً وجودياً، وقد تضعهما في بؤرة تقلبات ومجاهيل المرحلة المقبلة؛ فهناك تحديات – إن لم نقل مهددات – أمنية، وتآكل مالي واقتصادي، وتماوجات اجتماعية متلاحقة، وغير مسبوقة؛ وهذه التحديات مشتقة من صلب سياسات التبعية والإلحاق الخارجي المعتمدة – وليست في مواجهتها – ومن رحم آلية الحكم الداخلية، في تجلياتها واستظهاراتها الداعشية الدورية، والقائمة على الوسم بالرفض، والإلغاء للآخر، وعلى توظيف أحكام الشريعة – أو القانون – لتحقيق أهداف سيطرة مطلقة تعكس رغبة في تمثيل الإرادة الإلهية غير القابلة للرد، وتنأى بنفسها عن أي ضرب من ضروب المساءلة.
لربما كان ذلك هو التاريخ حينما يقيض لنا أن نعايشه أو نعاينه مباشرة، باللحم والدم، ولربما أتيح لنا أن نشهد، بأم العين، واحدة من المراحل “الفاصلة” التي لطالما تزخر بها الأدبيات والروايات التاريخية؛ ولكن علامات الانهيار، حقيقة، أوضح من أن يتمّ تجاهلها، أو إشاحة النظر عنها. وبالتأكيد، فإن ذلك لا يعكس تفكيراً رغائبياً، ذلك أن الانهدامات الكبرى (الفوالق الاستراتيجية) لا تقل خطورة، حين وقوعها، من حيث تداعياتها الجانبية، وهو ما تعامت عنه، أو ما قصّرت في التنبّه إليه، كل من العاصمتين حين شاركتا في جريمة الحرب على سورية لتحترقا أخيراً بنيرانها.
اللامتوقع، واللامنتظر، بات عنوان التفكير الاستراتيجي الجديد الذي يقوم على “تحميل” آلاف التفاصيل، السياسية والاقتصادية والمجتمعية والمدينية والفردية والجمعية، لكي يرصد اتجاه التحوّلات المرتقبة، وبما يؤكّد عقم الاكتفاء بالمؤشرات الكمية الساكنة. لقد ترافقت الموجة الأولى لاضطرابات بداية هذا العقد بخرائط تقسيمية للدول الكبرى في المنطقة، لتعود إلى النقطة ذاتها بعد سنوات “الانحراف” التي وضعت الأنظمة الجمهورية العربية في دائرة الاستهداف في إطار استراتيجية خليجية لتصدير الحرب عبر عشرات الحروب بالوكالة. بالطبع، ليس المقصود بذلك أن نزفّ بشرى، فالمأساة لنا، كقوميين عرب، أن نكون باستمرار ضحية السياسات والتلاعبات الخارجية، ودون أدنى عبرة!.
بسام هاشم