قُطبُ العارفين
د. نضال الصالح
على الرغم من أنّ اللغات جميعاً تتضمن صيغاً صرفية للتصغير، فإنّ العربية تتميز منها بتعدّد أغراض هذه الخصيصة اللغوية وتنوّعها ودلالاتها، من التقليل إلى.. فالتقريب والتعظيم والتدليل، ممّا يشير إلى عبقرية باذخة اتسمت بها هذه اللغة، واستحقت غير كتاب من الأقدمين والمحدثين، من “خصائص” ابني جنّي قديماً إلى “عبقرية” عمر فرّوخ حديثاً.
عبقر، في معظم المرويات، اسم لأحد كبار الجنّ، وإليه نُسب الوادي الذي يقع، حسب أكثر المرويات، في شبه الجزيرة العربية، بين الحدود الشرقية لليمن وعُمان، والذي قيل إنّ شعراء الجنّ اختاروا الإقامة فيه، وإنهم هم من يلهمون الشعراء قول الشعر. وغير خافٍ أنّ ما سبق من القول محض خرافة، شأن كثير من الخرافات التي حاولت البشرية، لا العرب وحدهم، من خلالها تفسير ما ينتمي إلى العجيب والخارق والمفارق للمألوف، ومن ذلك الإبداع.
أمّا عبقرية اللغة فشأن آخر غير ما يعني الشعر، لأنّها حقيقة وليست مجازاً، ومن بعض علامات هذه العبقرية فيها ما تقدّم من القول عن أغراض التصغير، وما يبدو وثيق الصلة بالواقع، أو الراهن على نحو أدقّ، وما يمكن عدّه ظاهرة في هذا الراهن، ولاسيما ما يعني توهّم غير قليل من الناس أنّه باحث، أو ناقد، أو محلّل سياسي أو اقتصادي، أو شاعر، أو روائي، بينما هو في الحقيقة والواقع بويحث، أو نويقد، أو محيلل، أو شويعر، أو…
في واحد من كتب النقائض أنّ سقْطاً (نكرة) من الشعراء يُدعى صويقر بن أحوص كان يزعم أنّه أوتي من الفصاحة والبلاغة وقوّة البيان ما يجعله فوق الشاعر جرير مكانة، وأنّه، ذات مجلس لجرير، اقتحم عليه المكان الذي كان فيه، فقرأ أمامه ما زعم أنّ شياطين عبقر ألهمته له في الليلة التي خلت، ولم يكد يتم صدر البيت الأول وهو يستجمع طرفي بردة فاخرة كانت عليه، حتى أسكته جرير قائلاً له: “أمّا أنّ البُردة التي عليك ممّا يلبس الملوك، فنعم، وأمّا أنك شاعر، فلا”، فلم يكن من صويقر إلا أن غادر المجلس مضمراً القصاص من جرير ذات مجلس آخر له، حتى كان له ما أراد بطريقة ترفّعَ الإخباريون عن سردها لشدة سوقيّتها، ولم يكد جرير يصحو من وقع الأمر عليه، حتى استعاد آخر بيت من لاميته التي كان هجا الفرزدق فيها، فصخب المجلس بالضحك سخرية من صويقر الذي سرعان ما خرج من المجلس لا يلوي على شيء، وقيل إنه نسي أن ينتعل حذاءه، فلحق به صبية من الحيّ، وظلوا يضربونه بزوجيْه، حتى بلغ البادية، وحتى شوهد من كثير من عابريها وهو يحاول تقليد البزاة في طيرانها ويردّد بيت جرير: “أنا البازيّ المُدلُّ على نُميرٍ/ أُتحْتُ من السماء لها انصباباً”، وأنّ الناس نسيت اسمه، وأبدلته بآخر، حتى أمضى حياته مُفرداً ومُعبّداً بتعبير الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، وحتى قضى غمّاً وكمداً.
وبعد، فلقطب العارفين أحمد بن عطاء الله قوله: ما قادكَ شيءٌ مثل الوهم.