“أعياد الشتاء”.. روايات أزمة أم نصوص مأزومة؟!
أفرزت الأزمة السورية على مدى السنوات الثمانية الماضية عددا غير قليل من الروايات التي تناولت الأوضاع وفق مشارب وأهواء كتّابها السياسية والأيديولوجية، سواء هؤلاء الموجودين في الداخل أو أولئك الذين هاجروا وحملوا معهم بعض تفاصيل الداخل في حقائب ذاكرتهم، وقد اشتغل معظم هؤلاء الكتّاب على تجاذبات وتناقضات الواقع لإنتاج نصوص بعناوين فضفاضة تعكس سباقا محموما لركوب هذه الموجة المتلاحقة يسكنهم وَهمُ إمكانية إدراك مجد قد لايتحقق بعد ذلك على الصعيد الأدبي، عبر النقر على أوتار العواطف والانكسارات التي عاشها الشعب السوري. فاتسمت جلّ أعمالهم بطرح رأي شخصي أكثر من توثيق أمين للواقع.
هذا الإغراء لم يقتصر على الوجوه الشّابة من روائيين طامحين لاعتلاء صهوة هذا الفن الأدبي الرائج والممتع، بل سبقهم إليه كتّاب لهم مكانتهم في السّاحة الأدبية السوريّة أمثال نبيل سليمان الذي أصدر روايتين في هذا الشأن وهما “ليل العالم” وتاريخ العيون المطفأة”، وممدوح عزام في “أرواح صخرات العسل”، وكذلك “السوريون الاعداء” لفواز حداد، وخالد خليفة في روايتي “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة، والموت عمل شاق” وشهلا العجيلي في رواية “صيف مع العدو” وسليم بركات في “سبايا سنجار”وغيرهم.
إلا أنّ إغراء الكتابة عن الواقع السوري المستجد دفع الكثير من الروائيين الشّباب لخوض تجارب مستعجلة لا ترتقي لمستوى الحدث، يفتقر أغلبها للنضج والتّماسك البنائي والتحليلي، والخبرة في رسم عوالم تحاكي الواقع أو تمتح منه بإقناع، فجاءت على شكل أمشاج روايات ضيقة الأفق ومحدودة الرؤى الدّلالية والفكرية.
وإذا استثنينا تجربة لينا هويان الحسن في رواية “الذئاب لا تنسى” القائمة على سرد واقعي، أو تجربة شخصية، فإننا لا نستطيع استثناء، مها الحسن في روايتيها “طبول الحرب، وعمت صباحا أيتها الحرب”، وفادي عزام في “بيت حدد” وعتاب شبيب في “موسم سقوط الفراشات” وآخرين. لكنني سأتوقف مطولا عند رواية “أعياد الشتاء” للقاصة نغم حيدر الصادرة حديثا عن دار نوفل في ١٤٠ صفحة، وهي الرّواية الثانية لها بعد “مرة”.
قبل الولوج إلى فصول الرّواية، لابدّ أن نشير إلى أن الكاتبة طبيبة أسنان، نالت الجائزة الثانية في مسابقة وزارة الثقافة السورية للقصة القصيرة عام ٢٠١٠.
في”أعياد الشتاء” تضعنا نغم أمام سيناريو لفيلم سينمائي هزيل بحبكته وبنيته الدرامية، بطلته فتاتان سوريتان تسكنان غرفة صغيرة في مساكن المهاجرين بإحدى الدول الأوروبية بعد هجرتهما عبر ما سمي بـ قوارب الموت، حيث تنشأ بينهما علاقة جدلية وصدامية أحيانا تمهد لصنع فضاء إنساني مفتوح على سرد يميط اللثام عن ذوات متعبة، بأحلام معلقة، وخيبات عديدة، لكن دون مقدمات مقنعة تحيلنا إليها تلك النّتائج.
شهيناز راقصة وفتاة ليل سحقتها ملاهي وبارات الشام تأتي من العدم كما يبدو لأن القارئ لا يجد مايشير خلال السياق إلى الجزء الأول من حياتها الذي أوصلها إلى هذا القاع، فالكاتبة تستهل قصتها منذ تعرّفها على الرائد قتيبة، ومن ثمّ هروبها مع فهد بائع الفشار في سينما السفراء، إلى أوروبا.
أما “راوية” فهي تختلف عنها، لأنها هاجرت وهي تحمل همّ أمّها وأخويها الصغيرين الذين ظلّوا في حي التّضامن بلا معيل بعد اختفاء والدها.
تتألف الّرواية من ثلاثة فصول تبدأ باحتفالات رأس السنة في مكان لجوء الشّخصيات المحورية لتستفيض بعدها في ثرثرة فارغة وسرد تفاصيل ليس لها أيّة قيمة فنية حكائيّة ولا تشكّل إضافة سرديّة، أو فكريّة “كان يوم الأحد الأخير من السّنة وبعده سيأتي الاثنين الأخير، ومن ثم الثّلاثاء الأخير، تستقبل بعدها سنة جديدة بلا طعم أو شكل كهلام تزج فيها شهيناز عنوة..”، بهذا الكلام تفتتح الكاتبة نصّها الغارق بالحوارات المبتذلة والمفردات البذيئة التي تروم منها إثارة غرائز أكثر منها إغناء سياق النص. تقول: “- تفقدي البرغل قالت راوية.
كدت أنسى، ضحكت شهيناز.
انتهت الأغنية وأحضرت شهيناز صحن البرغل. أمسكت بقبضتها حفنة، عصرتها ورمتها داخل الصحن.
طلاء أظافرك بحاجة إلى تجديد، لايمكن لأصابع مدرّسة مرموقة أن تهمل هكذا..”ص٨٤
هذا النموذج الحواري غالب على جل النص أضف إلى ذلك إقحام شخصيات في غير محلها وزمانها لاسيما تكرار ورود اسم ساعي البريد مع أن هذه الوظيفة قد اندثرت منذ سنوات عديدة في الدول المتخلفة فكيف والمكان هنا في دولة أوروبية متقدمة والزمن الافتراضي بعد عام٢٠١٢، و”راوية” المهاجرة عبر قوارب الموت تقتني كمبيوتر محمول وتهاتف والدتها في الشام يوميا فماذا يفعل ساعي البريد ضمن تجمعات المهاجرين..؟ ربما هذا يشير إلى تأثر الكاتبة بنص ساعي بريد نيرودا” تقول: “..أمّا أكثرهم وسامة فهو الذي يوزّع البريد يوم السبت، وتقف راوية عند الباب متظاهرة بأنها تنتظر بريدا مهما يحدد مسيرة حياتها، فيأتي الشاب بلباسه الأصفر ودراجته المحشوة بالرسائل..”.
رغم تأثر الكاتبة بحكايات الأنثى المسحوقة إلا أنّها لم توفق في ربط تلك الشذرات القصصية بالواقع ضمن بناء درامي مقنع، وإن بدا واضحا امتلاكها مقدرة على الانتقال السلس بين الأزمنة والأمكنة والربط بين أحداث متشابكة متداخلة في أنساق درامية متتابعة، لكنها قدمت أنموذجا لنص روائي طارئ شأنه شأن عشرات النصوص التي خرجت من رحم الأزمة، تفريخ حواضن نشر عديدة.
آصف إبراهيم