إيران تحول ترامب إلى نمر من ورق
ترجمة وإعداد : لمى عجاج
إن الحصول على صفقة نووية جديدة مع إيران لن يكون سهلاً لكن الافتقار التام للمبدأ في مواقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يمكن أن يسهل السير في هذا الاتجاه، فقد فشلت حملة الضغط الأقصى التي أطلقتها إدارة ترامب ضد إيران فشلاً ذريعاً ولم تنجح إلا في التصعيد من مخاطر الحرب في المنطقة وفي حشر الولايات المتحدة في الزاوية. ولم يكن قادة إيران ليرضخوا لضغوطات الولايات المتحدة وذلك لأن واشنطن كانت تطالب بمطالب غير معقولة ولأن الاستسلام لهذا النوع من الابتزاز سيدعو فقط إلى تكرار المحاولات لهذا عمدت إيران إلى الرد الفوري الحاسم بفرض التكاليف على الولايات المتحدة وحلفائها المحليين لتثبت بالدليل القطعي بأنها تستطيع أن تقلب الموازين لصالحها في الوقت الذي تظن فيه واشنطن بأنها قد تمكنت من الضغط عليها ومحاصرتها.
اليوم وبعد أن ترك الصقر العنيد جون بولتون الإدارة، فإن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هو، هل تستطيع إدارة ترامب المضي قدماً في هذا الاتجاه؟! للوهلة الأولى قد يبدو هذا صعباً إن لم يكن مستحيلاً وخاصةً أن الرئيس ترامب كان سابقاً قد ندد فور ترشحه للرئاسة بالاتفاق النووي لإدارة أوباما مع إيران واعتبره “أسوأ صفقة على الإطلاق”، فضلاً عن توجهه بالكامل مع الكيان الصهيوني، ومحمد بن سلمان في مملكة آل سعود وتصريحاته المتكررة بأن “أقصى قدر من الضغط” كان سيجدي وإن إيران كانت تموت للتوصل إلى اتفاق، لكن يبدو أن الرئيس دونالد ترامب قد تنصل من تصريحاته اليوم وأخذ على عاتقه القيام بأكبر تنازل محيداً غروره وعنجهيته جانباً ليعرض تقديم غصن الزيتون الأخضر بعد الهجوم على منشأة النفط السعودية في وقت سابق من الشهر الماضي على الرغم من أن وزير خارجيته قد ألقى باللوم على طهران ووصف الهجوم بأنه “عمل حرب”. لكن من واجبنا أن نفهم الدافع من وراء هذا التغيير فهناك الكثير من الأسباب الوجيهة التي تدعونا للشك والتخمين فيما إذا كان هناك مجال لعقد هذه الصفقة أم لا، وهل من الممكن أن نتوقع حصول صفقة بين إيران وواشنطن؟! مع العلم أن جميعنا بات يعلم أن عدم مصداقية ترامب قد تقف كحجر عقبة في وجه هذا الاتفاق، فالجمع بين “كونك كاذبا متأصلا وعريقا، و “كونك صانع قرار” هو أشبه بحل الأحاجي، فالتكهن بأفعالك أمرٌ صعب وهذا ما سيجعل أصدقاؤك قبل أعدائك متخوفين من الوثوق بما ستقوله أو تفعله، فلماذا يجب على طهران (أو أي طرف آخر) أن تأخذ كلمة ترامب على محمل الجد في هذه المرحلة؟! لهذا السبب يتوجب على ترامب في حال اتخذ قراره بعقد صفقة مع الرئيس الإيراني حسن روحاني أو وزير الخارجية محمد جواد ظريف أو المرشد الأعلى علي خامنئي أن يبحث عن وسيلة تجعلهم يلمسون الجدية في عروضه التي قد يقدمها وهذا ما سيكون مستحيلاً على ترامب ومع هذا قد يكون هناك بارقة أمل تمنحه القليل من الوقت المستقطع ليثبت رغبته الفعلية بالتعاون ولكنها مرهونة بحسن الاستغلال.
كان ترامب يتحدى قوانين السياسة الأمريكية منذ اللحظة لإعلان ترشحه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية وهذا ما بدا واضحاً عندما أظهر نوعاً من الوكالة الفردية المفرطة التي فاقت تلك التي أظهرها معظم أسلافه ولكنه للأسف لم يحسن استعمالها بل على العكس قام باستخدامها على نحوٍ دائم في غايات جرّت معها الكثير من الأحداث المؤسفة والمعيبة والتي سيسجلها التاريخ ويكون شاهداً على أن شخصية الرئيس ترامب كانت الأكثر نفاقاً ومراوغة وهذا ما تجلّى في تنصله من مواقفه والإنكار بكل بساطة بأنها في الأصل صدرت عنه، فبعد التهديد بـ “النيران والغضب” لكوريا الديمقراطية عاد ليقول: بأنه وقع “في الحب” مع الزعيم كيم جونغ أون دون أن يشعر بذرة خجل أمام أنصاره في الداخل، وما زاد من صعوبة الموقف على ترامب معارضة الرأي العام الشديدة للتصعيد حيث سجّلت استطلاعات “بيزنس انسايدر” أن ثلاثة عشر بالمائة فقط من الأمريكيين يفضلون توجيه ضربة عسكرية للرد على ما حصل في مملكة آل سعود، مع العلم أن حملة العلاقات العامة المتعمدة لحشد الدعم للحرب ساهمت بشكلٍ كبير في الرفع من هذه النسبة، لكن وعلى الرغم من محاولات البيت الأبيض المتعمدة في تأجيج الرأي العام فإن المرجح أن تظل النسبة أقل بكثير من الأغلبية لكن هذا يعتمد على إيقاف الحملة المتعمدة من التضخيم والتهديد بالحرب، فعلى ما يبدو بأن هناك رغبة شعبية قوية تدعو إلى التخفيف من التصعيد، وبما أن السنة الانتخابية على الأبواب فإن هذا سيجعل ترامب أكثر تردداً في إلقاء الزهر بطريقته الحديدية التي تجعله يبدو من الصقور وهذا ما عبرت عنه منافسته الرئاسية السابقة هيلاري كلينتون عندما قالت “أراهن أن ترامب يفضل أن يخوض الانتخابات ضد منافس ديمقراطي – أحلم بهم”.
ليس هناك أدنى شك في أن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة سيعلو صوتهم من وقع الصدمة وسيحتجون على تحرك ترامب لإصلاح الأسوار مع طهران أو مجرد
( محاولة خفض درجة حرارة التصعيد إلى حدٍ معين). إن هذه الصفقة هي الشاهد الأفضل الذي يشرح بكل وضوح الاختلاف بين الوضع في الشرق الأوسط والمواجهة مع كوريا الديمقراطية وهذا ما ظهر عندما شعر جميع حلفاء الولايات المتحدة في آسيا بالقلق من استعداد ترامب وسعادته عندما اختار المسار الدبلوماسي في حين من يهتم بما يفكر فيه عملاء أمريكا ووكلاؤها في الشرق الأوسط؟ فنتنياهو أصبح ضعيفاً وربما يتجه نحو التقاعد أو السجن، أما محمد بن سلمان فهو لا يتمتع بأي شرعية في الولايات المتحدة للدرجة التي يعتبرونه فيها قاتل متسلسل لهذا السبب لا تملك السعودية ولا الكيان الإسرائيلي ولا دول الخليج بدائل استراتيجية واضحة للولايات المتحدة. على أي حال كان ترامب في الحقيقة يحاول خداعهم بقوله: إنه لن يخوض حرباً نيابةً عنهم. فلماذا يخاطر النرجسي ذو المستوى العالمي مثل ترامب بمستقبله السياسي لمساعدة العرب في الشرق الأوسط في حل مشاكلهم وهو في الأصل لا يكترث لأمرهم، فالأفضل له أن يلعب دور صانع السلام باعتبار أنه الدور الذي يطمع بالحصول عليه دائماً. ومثلما أزعج هذا الأمر حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، فإنه بنفس الطريقة أزعج مجموعات الضغط مثل مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات المشهورة، والمانحين الجمهوريين الكبار مثل شيلدون أديلسون وبالمحصلة الديمقراطيين أمثال سيندسي ليندسي جراهام وماركو روبيو وتوم كوتون ولكن هل يهم ترامب هذا الأمر حقاً في هذه المرحلة؟ إنه لا يحتاج إلى أموال أديلسون للترشح لإعادة انتخابه – رغم أن آخرين في الحزب الجمهوري ربما – وترامب يهتم بدرجة أقل بكثير بثروات الحزب أكثر من اهتمامه بمصالحه لهذا السبب يبدو أنه لم يقلق من إغضاب أديلسون عندما قرر إقالة بولتون رغم أنه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وأعطى الضوء الأخضر للكيان الإسرائيلي لضم المزيد من المستوطنات الأمر غير المرجح أن يصادق عليه أي من المرشحين الديمقراطيين في هذه المرحلة، فأين يذهب أناس مثل أديلسون؟ أما بالنسبة لصقور مجلس الشيوخ فإن جراهام وروبيو وكوتون ليس لهم دائرة انتخابية وطنية وقد انقلبوا مراراً عندما تعرضوا لضغوطات ترامب. قد يقول قائل: إن وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي الجديد روبرت أوبراين سيعارضان أي محاولة جادة لنزع فتيل الأزمة ولكن كلاهما مدرك بأن تقبل كل ما يصدر عن ترامب وابتلاعه هو السبيل الوحيد للحفاظ على المنصب، فإذا كان لدى بومبيو أية طموحات سياسية في كنساس أو حتى على الصعيد القومي فهذا يعني أنه لن يكون راغباً في تحدي ترامب على العلن بالطريقة التي تحداه فيها بولتون إلا في حالة واحدة وهي أن تبدأ ثروة الرئيس السياسية في النفاذ.
وفي النهاية فإن محاولة عقد صفقة مع إيران ستكون متوافقة مع كتاب اللعب الطويل الأمد الخاص بترامب والذي جاء في نصه: الخطوة واحد، افتعال مشكلة من حيث لا شيء. الخطوة اثنان، التظاهر بحلها وغالباً بالعودة من حيث بدأنا أي إلى الوضع الأولي. الخطوة الثالثة، المطالبة بالثقة الكاملة والتصديق التام بقدرته على إنقاذ الموقف. لذلك فإن صفقة لحفظ ماء الوجه مع إيران كهذه الصفقة تتناسب تماماً مع هذا النموذج، السؤال المهم هو ما الذي يجب أن تتخلى عنه الولايات المتحدة لحمل الإيرانيين على لعب الكرة والذي يجب أن يكون شيئاً ملموساً لأن القادة في طهران أوضحوا أنهم لن يتبّعوا أسلوب كوريا الديمقراطية ويكرروه لأنهم ليسوا بالحمقى ليغيروا موقفهم في هذه المرحلة لهذا كان ردهم على حملة الضغط القصوى بالرفض الثابت للاستسلام – مع تصعيد ردودهم تدريجياً – ليبرهنوا للولايات المتحدة أنهم لن يستسلموا للإنذار النهائي أو الابتزاز. لأنه يعرفون بأنهم إذا سمحوا بابتزازهم مرة فقد يُهيئ لواشنطن أن بإمكانها تكرار تهديداتها والحصول على المزيد من التنازلات من إيران وخاصةً بعد أن واصلت إيران بناء المزيد والمزيد من أجهزة الطرد المركزي حتى بعد تشديد العقوبات الاقتصادية، فحتى بعد أن وافقت إيران على تقليص برنامجها النووي من خلال اتفاقية عام 2015 كانت هذه الموافقة مشروطة بتخلي إدارة أوباما عن مطلب الولايات المتحدة القديم العهد بأن تفكك إيران كامل قدرتها على التخصيب.
لقد تخلت إيران عن الكثير لكنه لم يكن رضوخاً أو استسلاماً للضغوط الأمريكية أو حتى الضغوط متعددة الأطراف. نفس السيناريو يعاد اليوم فإيران تدرك بأنها يجب أن تحصل على تخفيف كبير للعقوبات من أجل التفاوض بجدية و السبب الرئيسي وراء هذا أن مقاربة ترامب المتعثرة قوّضت النفوذ الأمريكي وأثارت الشكوك حول ما إذا كان يمكن الوثوق بواشنطن في احترام أي صفقة قد تعقدها لذلك ستصر طهران بالدرجة الأولى على الحصول على شيء ملموس، وبالنظر إلى ما نحن عليه اليوم فإن أسهل ما يمكن أن يفعله ترامب هو القول: إنه يؤيد بالكامل خطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتقديم قرض بقيمة 15 مليار دولار لإيران، والتوقف عن التهديد بمعاقبة حلفاء الولايات المتحدة الذين يريدون التعامل مع إيران و (ربما) تعليق بعض العقوبات الأحادية التي فرضت عندما غادرت الولايات المتحدة الصفقة النووية. ومن الواضح أن خطوات كهذه أصعب بكثير في أعقاب الهجمات على البنية التحتية النفطية السعودية لكنها لا تزال غير مستحيلة، ليس من المؤكد بأن يتم اللقاء الفردي الذي أراده ترامب مع الرئيس روحاني لكن يمكن للمرء أن يتوقع عقد اجتماع بين بومبو وظريف وهو اتفاق لإجراء محادثات إضافية، فعندما تكون ترامب وتريد الحصول على فترة ولاية ثانية فهذا يعني بأنه يمكنك أن تعد بـ ” صفقة جميلة” وهذا هو ما نحاول الذهاب إليه وقتها فقط سيدعي بأنه صانع السلام وسيبقى رهينة لإيران لرفع درجة الحرارة بين الحين والآخر (بينما يزحف بالقرب من عتبة الأسلحة النووية) ما قد يجبره في النهاية على اتخاذ خطوات محفوفة بالمخاطر ويُضطر للظهور بمظهر النمر الورقي.
من المؤكد أنه من المحتمل أن تستمر إيران في الإصرار على عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي كشرط مسبق للمحادثات الأمر الذي قد يجعل حل الوضع مستحيلاً لكن طهران معتادة على ركوب الصعب وبالتأكيد ستجد طريقة لحمل الولايات المتحدة على التخفيف من حملة الضغط القصوى، لقد أظهر كلا الجانبين قدرته على إيذاء الطرف الآخر وفي هذا الاعتراف تكمن إمكانية -ولو ضئيلة – في التراجع عن حافة الهاوية لأن ترامب قد أثبت أنه مفاوض غير كفء وجاهل استراتيجي فهو لا يرى الأشياء على صورتها الحقيقية ولعل الرئيس روحاني وحده الذي استطاع فعل ذلك، ما يعني بأنه يمكن لترامب أن يحاول إذا أراد وإذا نجح معجزة – من يدري؟ – ربما سيتمكن في القادم من الأيام من الحصول على جائزة نوبل للسلام التي لطالما تمناها والتي وإن تمكن من الحصول عليها فإنه لا يستحقها ولن تجعل منه فريداً.