المنطلق الجيوسياسي للحرب التجارية بين الصين وأمريكا
عناية ناصر
منذ أن تولى دونالد ترامب منصبه في عام 2017 ، طبقت الولايات المتحدة سلسلة من التدابير لمحاولة الحد من اختلال التوازن التجاري مع الصين، لكن قرار ترامب بفرض رسوم جمركية على الصين سبقه عقد من المفاوضات الفاشلة التي تهدف إلى إقامة علاقة تجارية أكثر عدلاً بين البلدين. في السابق عقدت إدارة أوباما عدة اجتماعات رفيعة المستوى مع المسؤولين الصينيين حول الحواجز الصينية أمام واردات الولايات المتحدة. وسواء كان الأمر عادلاً أو غير عادل، كان تصور الإدارات الأمريكية المتعددة أن الصين تتمتع بحرية الوصول إلى أسواق الولايات المتحدة دون أن تتمتع الولايات المتحدة بنفس الميزة.
اتخذ الصينيون تحركات للتكيف مع ذلك، لكنهم لم يمنحوا الولايات المتحدة حرية أكبر للوصول إلى السوق الصينية. لقد كان اقتصاد الصين يعتمد منذ فترة طويلة اعتماداً كبيراً على التصدير إلى الأسواق الخارجية نظراً لأن سوقها المحلية لا يمكنها استيعاب الكم الهائل من السلع التي تنتجها الصناعة الصينية، ولكن مع بداية الأزمة المالية لعام 2008 اكتسبت السوق المحلية أهمية مختلفة تماماً.
المثال الياباني
هناك العديد من أوجه التشابه بين العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين اليوم، والعلاقات التجارية بين الولايات المتحدة واليابان في ثمانينيات القرن الماضي، فخلال السبعينيات والثمانينيات تجاوز الإنتاج الصناعي الياباني بشكل كبير الاحتياجات المحلية، وأغلقت اليابان معظم أسواقها أمام الواردات من الولايات المتحدة. كانت فترة منتصف إلى أواخر الثمانينات من القرن الماضي فترة توتر شديدة بين البلدين حين قامت الولايات المتحدة بتهديدات خطيرة بالانتقام، لكن لم يحدث أي شيء لسببين. أولاً، كانت اليابان حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة، و كانت الحاجة إلى محاصرة فلاديفوستوك – الذي يتطلب التعاون الياباني – في النهاية أهم من الخلل التجاري مع الأمريكي مع اليابان. ثانياً ، في أواخر الثمانينات ، بدأ الاقتصاد الياباني في التراجع، وأجبرت المنافسة من مراكز التصنيع الأخرى اليابان على خفض سعر صادراتها، ما قلل من هوامش الربح وأضعف النظام المصرفي الذي كان يدعم صناعة التصدير اليابانية. لقد تداعت البنوك وانهارت، ما يعني أن المصنعين اليابانيين لم يعودوا قادرين على التصدير بنفس المستوى الذي كانوا عليه من قبل. ولكن قبل انهيار البنوك، كان هناك شعور شديد بالمرارة ومعاداة اليابان في الولايات المتحدة بشأن فقدان الوظائف بسبب المصنعين اليابانيين. واليوم نرى ردوداً مشابهة تجاه الصينيين، فهي تواجه الآن منافسة شديدة، وتخفيضاً في الأسعار في الوقت الذي تحاول فيه الدخول إلى أسواق تنافسية أخرى في التكنولوجيا.
ومع ذلك، هناك فرق أساسي بين اليابان والصين، منذ كانت اليابان رصيداً استراتيجيا للولايات المتحدة – وهي ساعدت إلى حد ما على احتواء الاحتكاك الاقتصادي- أما الصين فهي ليست رصيداً استراتيجياً للولايات المتحدة ، ولكنها في الواقع تعتبر بشكل متزايد تهديداً استراتيجياً. وفي كلتا الحالتين، أكد الصينيون على براعتهم المتنامية، وهذا يعني أن مواقف الذين كانوا يؤثرون في العلاقات الأمريكية اليابانية تغيب اليوم عن العلاقات الأمريكية الصينية. من هنا وكون بكين تشكل تهديداً عسكرياً واقتصادياً فلا شك ستواجه ردوداً مختلفة من واشنطن. لكن الصين اتبعت الاستراتيجية اليابانية في التعامل مع الولايات المتحدة، وعقدت العديد من الاجتماعات التي انتهت دون قرار. ولعدم وجود أي وسيلة لإجبار الصينيين على تغيير سياستهم، استمرت الإدارات الأمريكية المتعددة ببساطة في إجراء محادثات بدا أنها في النهاية لم تذهب إلى أي مكان. في هذه المفاوضات، ساعد الصينيون الاستثمارات الكبيرة للشركات الأمريكية في الصين، الأمر الذي دفع واشنطن إلى الحفاظ على علاقة مستقرة مع بكين، ولكن بينما استفادت هذه الشركات من العلاقة مع الصين ، كان من المشكوك فيه دائماً ما إذا كان الاقتصاد الأمريكي يفعل كذلك. لقد عملت هذه الشركات في الصين للاستفادة من العمالة الصينية الرخيصة ، لكنها بذلك أغلقت المصانع الأمريكية وتخلصت من عمالها الأمريكيين، الأمر الذي ساعد في الوصول إلى النتيجة النهائية، والثروة التي تم إنشاؤها ظلت في الصين.
التحول
كانت الإدارات الأمريكية السابقة تجد صعوبة في اتخاذ إجراءات ضد الصينيين، ولكن بعد الأزمة المالية في عام 2008 ، أدى الانهيار الهائل للطبقة العاملة الصناعية القوية سابقاً إلى خلق شريحة كبيرة وغاضبة من السكان أصبحت قوية من الناحية السياسية مثل الشركات الأمريكية التي تعمل في الصين، وفي ذاك الوقت تبخر خيار استمرار المحادثات غير الحاسمة التي لم يكن لها تأثير على السياسة الصينية ببطء. وهكذا، استخدمت إدارة ترامب الرسوم الجمركية لمحاولة إجبار الصينيين على فتح أسواقهم أمام منافسة الولايات المتحدة. لكن المشكلة هي أن الاقتصاد الصيني ليس في وضع يسمح له بقبول مثل هذه المنافسة، لذلك أثرت الأزمة المالية بشدة على صناعة الصادرات الصينية حيث قلل الركود العالمي من شهية البضائع الصينية، وبالطبع هذا يضر الاقتصاد الصيني بشكل كبير، ويمنعه من التوازن في أزمة لا تزال تتردد.
يتمثل الحل الرئيسي للصين لهذه المشكلة في زيادة الاستهلاك المحلي، وهي مهمة أثبتت صعوبة بسبب توزيع الثروة في الصين، وعجز الأسواق المالية عن زيادة الائتمان الاستهلاكي بشكل كبير، ووضع الصناعة الصينية الموجهة للمستهلكين الأجانب بدلاً من المستهلكين المحليين إذ ليس من السهل بيع أجهزة” أي باد” إلى الفلاحين الصينيين.
قد يكون السماح للولايات المتحدة بالوصول إلى السوق الصينية مؤلماً إن لم يكن كارثياً، لأن السوق المحلية الصينية كانت هي الوسيلة الوحيدة التي تمتلكها الصين، وكانت مطالب الولايات المتحدة بالحصول على قدر أكبر من الوصول إليها مستحيلة. الآن انتقم الصينيون من الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة، لكن بشكل غير قوي، بسبب أن الصين تستخرج 4 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي من الصادرات إلى الولايات المتحدة، بينما تستخرج الولايات المتحدة 0.5 في المائة فقط من الصادرات إلى الصين، وعليه تستطيع الصين إلحاق ضرر أقل بالولايات المتحدة ما تستطيع الولايات المتحدة القيام به لإيذاء الصين.
لقد رد الصينيون بتخفيض قيمة اليوان، ما جعل صادراتهم أرخص، وبذلك نفت الكلام بأنها تتلاعب بعملتها لتعزيز وضعها الاقتصادي، وهذه ليست تهمة جديدة، فقد كانت إدارة أوباما عدوانية بشأن هذه النقطة لكنها لم تفكر بالانتقام. وحالياً كررت إدارة ترامب هذا الادعاء، ووصفت الصين في وقت سابق رسمياً بأنها متلاعب بالعملة. لذلك هدد ترامب باتخاذ إجراءات أشد وهي إجبار الشركات الأمريكية في الصين على المغادرة والعودة إلى الولايات المتحدة. صحيح أن هناك بعض السوابق القانونية لهذا، ولكن هل ستتابع الولايات المتحدة ذلك؟. مثل هذه الخطوة ستكون تهديداً رئيسيا للشركات الأمريكية، ربما أكثر من الصين نفسها. ومن الناحية السياسية، تعزز هذه الخطوة موقف ترامب بين الأميركيين الذين يلقون تهم الاستعانة بمصادر خارجية لتوفير فرص عمل للصين. ومع اقتراب الانتخابات، فإن تهديد استراتيجية ترامب السياسية واضحة، وكذلك الضغط الذي تفرضه الولايات المتحدة على الصين.
أخيراً، تتكون الجغرافيا السياسية من السياسة والاقتصاد والمسائل العسكرية، وعند مقارنة الصين واليابان، يمكننا أن نرى نجاح الثلاثة. ففي حالة اليابان، كان للاعتبارات العسكرية الأسبقية على الاثنين الآخرين وعلى إجراءات الولايات المتحدة المحدودة. أما في حالة الصين، تدفع السياسة والاقتصاد الولايات المتحدة لاتخاذ إجراء، في حين لا توجد اعتبارات عسكرية لجعل الولايات المتحدة تتراجع.