كم أنت غنية يا سورية!
لعقود مضت والفساد يعج في البلاد، ولا مناص أو حرج من الاعتراف بذلك، فالسلطات الرسمية تحسست فداحته ميدانياً، وقد كان لها السبق في الشكوى منه والدلالة على مخاطره، واعتمدت إطلاق حملات مكافحته، عبر العديد من القرارات، والعديد من الإجراءات، ولكن جميع الدعوات والوعود التي تمت بشأن مكافحته والحد منه لم تثمر إلا بالنزر اليسير من الكثير المأمول. والغريب في الأمر أن الفساد الداخلي الذي أوقع الكثير من منشآت القطاع العام الإنتاجي والإنشائي والخدمي في خسائر كبيرة، أسفرت عن توقف بعضها أو إلغائه أو دمجه مع غيره؛ ما تسبب في تقزيم القطاع العام، بعكس التضخيم الواجب الذي تتطلبه المصلحة الوطنية، وأيضاً حد من نشاط الكثير من منشآت القطاع الخاص، القائمة أو الواجبة الإحداث، والمستغرب واللافت للانتباه أن الفاسدين، لم يردعوا عن غيهم مع حلول العدوان الخارجي في البلد، بل صعَّدوا من فسادهم ما استطاعوا ذلك، وبتزايد بين زمان ومكان، بالترافق مع الفساد الكبير القادم من الخارج، المتمثل بالحرب العدائية الدولية علينا والمتتابعة منذ ثماني سنوات، والتي أسفرت عن تعطيل أو تدمير أو سرقة آلاف المنشآت في كافة القطاعات الإنتاجية، وتخريب وتعطيل إنتاج عشرات الحقول النفطية والغازية، ومحطات توليد الكهرباء، وآلاف الحقول الزراعية.
رغم كل ذلك لم تظهر سورية ضعيفة، بالشكل الذي توقعوه لها خصومها في الخارج وأذنابهم في الداخل، بل الجميع يشهد استمرارية الحضور القوي للدولة، والصمود الصابر للمواطنين الشرفاء، رغم التباين الكبير بين كفتي الدخل والإنفاق، فلم تتوانَ الدولة عن تقديم الخدمات – المعهودة والمدعومة بشكل كبير – لمواطنيها في مجالات التعليم والصحة ورغيف الخبز والوقود، والماء والكهرباء، المترافق مع استمرارية دفع الرواتب للعاملين في الدولة مع بداية كل شهر، بما في ذلك للمواطنين الذين هم في قطاع الجماعات الإرهابية، بل كثيراً ما تم إعفاء نسبة كبيرة من المواطنين من الغرامات المالية الواجبة الدفع، جراء تأخرهم عن دفع مستحقات عليهم في الماء والكهرباء والاتصالات، ومن قروض مصرفية، وإعطاؤهم مهلاً جديدة لتسديدها، بل في بعض الحالات تم شطبها عنهم، وقد تحملت الدولة المليارات من قيمة الإعانات المقدمة للمهجرين والعائدين إلى المناطق المحررة.
الغريب في الأمر أننا ونحن على أبواب الانتصار شبه النهائي على الخصوم الخارجيين وعملائهم الحاقدين، لازلنا نشهد مجدداً استمرار ظهور حالات فساد داخلي من أطراف رسمية وبمبالغ مالية كبيرة، من ذوي حضور شعبي وموثوقية رسمية، ورفيعي المكانة العلمية والوظيفية، بالشراكة مع رجال أعمال مليئين مالياً، حازوا التقدير الرسمي والشعبي لبقائهم في البلد، إذ لم يكن من المتوقع وتحت أية أعراف كانت أن تفكر أو تجرؤ هذه الأطراف لارتكاب فساد بهذا الحجم.
مدعاة للسرور، أن عجلة الإنتاج مستمرة، وأغلب الخدمات والمرافق العامة قيد التحديث أو الإحداث، فورشات العمل الخدمية منتشرة في جميع المناطق حتى في الصحراء – قبل أيام عرضت الشاشة منظر طريق مركزي يتم تعبيده في البادية السورية – والقصور المشكو منه في مكان، مأمول المعالجة عقب الانتهاء من إتمام نشاط قائم في مكان آخر، ولا زال الأمل بأن الإصلاح قد يكون، لا بل سيكون، ولو تأخر، والأمل هذه المرة معقود على نتائج أعمال اللجنة العليا التي تم تشكيلها مؤخراً لإصلاح القطاع العام الاقتصادي بغرض تحسين إنتاجية المؤسسات الحكومية وتنافسيتها، والتي لولا بقاء اليسير منها لكنا في أسوا ما عمل له الخصوم.
هذه اللجنة التي ستكون مسؤولة أمام مجلس الوزراء عن تخطيط وتنفيذ عمليات إصلاح وتطوير وإعادة هيكلة القطاع العام الاقتصادي؛ وتعمل بالتنسيق مع الوزارات المعنية لوضع خطط العمل التفصيلية والبرامج الزمنية لمتابعة تنفيذ عمليات إعادة الهيكلة في القطاع العام الاقتصادي بتحديد الاستثمارات اللازمة لتطوير القطاع العام الاقتصادي، بأنواعها المختلفة، وتحسين إنتاجية المؤسسات والشركات العامة والشركات الحكومية وتنافسيتها، وتحديث أساليب إدارة المؤسسات والشركات العامة والشركات الحكومية، لتتمكن من تطوير منتجاتها وخدماتها وقدراتها التسويقية، إضافة إلى العمل على توفير التدريب الفني والإداري اللازم لتطوير القطاع العام الاقتصادي. ولها حق التعاقد مع بيوت الخبرة لتقديم الاستشارات الاقتصادية والمالية والقانونية والإدارية، ولكن الطامة الكبرى ستكون حال عدم التزام هذه اللجنة، بمضمون قرار تشكيلها وقصورها عن الالتزام، ببرنامج زمني لإنجاز الأعمال الكبيرة المنوطة بها، على غرار قصور ما سبقها من لجان تم تشكيلها لنفس الغاية.
عبد اللطيف شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية