خلل بنيوي ينتاب المشهد الاقتصادي.. قوامه تصدّر المشاريع الريعية على حساب نظيرتها الإنتاجية
ينتاب المشهد الاقتصادي العام حالة من التخبط وعدم وضوح الرؤية وتحديد الأهداف، ففي الوقت الذي تنادي فيه الحكومة وتدعي أن الإنتاج هو البوصلة، وتصرّ على أن قطاع الأعمال شريك أساسي بالعملية التنموية، نجد أن الأخير يوجه بوصلته نحو المشاريع الريعية، وآخر ما حرر في هذا السياق هو مصادقة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك على تأسيس شركة يحق لها –حسب نظامها الداخلي- تملك وإدارة المراكز التجارية، والمولات، والأسواق، والمطاعم، والمراكز الترفيهية للأطفال، والمشاريع السياحية، والأنكى أن أحد أبرز مالكيها يصنف من كبار الصناعيين!.
أين الخارطة..؟!
يفترض بالحكومة التي سبق لها وأن توافقت مع قطاع الأعمال لاعتماد عام 2018على الإنتاج، أنها درست مع من توافقت معه السبل الكفيلة لتحقيق هذا الهدف، بناءً على معطيات يستوجب الاشتغال عليها وفق أسس منهجية، كما ويفترض أن الدراسة النظرية للواقع الاستثماري في سورية أخذت وقتها اللازم وربما أكثر، وبدت الصورة واضحة أمام الحكومة بعد عدة جولات لها على عدد من محافظات القطر، سواء من ناحية تشخيص الواقع الاستثماري والوقوف على متطلباته اللوجستية، أم من ناحية توزيع المشاريع التنموية حسب مقومات كل منطقة، وبالتالي كان لابد من الحكومة إعداد خارطة استثمارية بامتياز تتواءم وما تزخر به الجغرافيا السورية من مقومات طبيعية ومادية وبشرية!.
لا تزال –للأسف- المشاريع الريعية تفرض نفسها كأولوية في المشهد الاقتصادي، في مرحلة بات بها الاقتصاد بأمس الحاجة إلى أوراق رابحة في ظل ما يعانيه من عقوبات قاسية، وذلك نظراً لسهولة استرداد رأس المال، ولكون أن مثل هذه المشاريع مدرة للمال من خلال تشجيع الاستهلاك غير المبرر القاتل للمدخرات!.
لا قراءة صحيحة
ما سبق يشي بعدم القراءة الصحيحة والدقيقة للواقع الاستثماري في سورية، والتي ينجم عنها –في أغلب الأحيان- سباق غير معلن لاقتناص الفرص الخام للاستفادة منها لاحقاً وتحقيق إيرادات غير مسبوقة، فمن يقدم على الاستثمار في ظروف كهذه لا شك وأن لديه دراسات مسبقة دفعته إلى ذلك، ولاسيما أن (الجُبن) أبرز صفات رأس المال، مع التأكيد على أن الاستثمار في أوقات الأزمات ينتج قطاعات وفرص استثمارية لم تكن بالحسبان، بمعنى أنه في ظل العقوبات الاقتصادية يتم البحث عن بدائل للمستوردات عبر الاعتماد على الذات وتفعيل القطاعات الإنتاجية الكفيلة بتوفير هذه البدائل، وهنا على هيئة الاستثمار السورية المتابعة مع المحافظات والوزارات المعنية لتأمين خارطة استثمارية بفكر وصناعة ورؤى جديدة تُعرض على من يرغب، مع متابعة وتحديث المستثمرين لها لمعرفة الموارد والإمكانات الموجودة، وتحديد أولويات التنمية والفرص الاستثمارية المدروسة وفق معايير الجدوى الاقتصادية، مع الإشارة إلى أن سورية بلد الفرص المتوسطة والصغيرة والتعويل دائماً عليها، وليس على المستثمر الذي يتجه نحو المشاريع النوعية ذات التكلفة العالية لتحقيق عوائد سريعة “مصارف– عقارات– سياحة.. إلخ”.
مهمة ولكن..!.
فمع إقرارنا بأهمية وجود شركات مالية وخدمية ريعية، كمكونات لابد منها في الاقتصاد الوطني، نظراً لدورها الرافد للعملية الاستثمارية وتفعيل الإنتاج، إلا أن طغيان هذه الشركات على المشهد العام للاقتصاد يشي بخلل بنيوي يستوجب تداركه، ولنا بتجارب العديد من الدول بعض الدروس المستفادة، فدول الخليج مثلاً، هي من أغنى دول المنطقة، لكن اقتصادها بالنهاية هش، لاعتبارات تتعلق، أولاً: بأنها دول استهلاكية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وثانياً: فإن شبه انعدام الإنتاج فيها سواء الصناعي أم الزراعي حولها إلى دول تابعة لمن يؤمن لها احتياجاتها الأساسية دون عناء مادام سيل الدولارات جار، ولعل ما حدث لقطر من حصار بري وجوي أطبق الخناق عليها، لهو أكبر عبرة لكل دولة مستهلكة، فقد دُقّت خلال أيام وربما ساعات قليلة نواقيس خطر نفاذ الأغذية من أسواق أغنى دولة في المنطقة، نتيجة إفراطها بالاعتماد على الاقتصاد الريعي على حساب الإنتاجي، كما أن إمارة دبي التي استقطبت كبرى الاستثمارات العالمية لتتحول إلى قوة اقتصادية بأموال وقوى الغير، إلا أن العنوان الرئيسي للاستثمار في هذه الإمارة الصغيرة هو ريعي بالدرجة الأولى قوامه “سياحة– مصارف– تأمين.. إلخ”، فهذا النوع من الاستثمار صحيح أنه يحقق موارد مالية هائلة، إلا أنه سرعان ما ينهار مع أول هزة مهما كان نوعها وحجمها “سياسية– أمنية– طبيعية..إلخ”، وبالتالي فإنه أشبه ما يكون بـ”نمر من كرتون”! على عكس الاستثمارات التنموية الحقيقية “صناعة– زراعة” كما هو حاصل في دول شرق آسيا التي استطاعت بجدارة انتزاع لقب “النمور الآسيوية”..!.
حسن النابلسي