أحسنُ الوقت للهوى تشرينُ
إذا أردنا أن نعرف ماذا جرى ويجري اليوم في بلادنا التي تخوض حربا ضروسا لا شبيه لها، يجب علينا أن نعرف ماذا جرى في هذه البلاد في تشرين الأول 1973، في السادس منه تحديدا، عندما امتلكت سورية زمام مبادرة الحرب ضد الكيان الصهيوني، لاقتلاعه من شروشه كالعشب الضار، فراية النصر التي زرعها رجل من رجالنا الشجعان في مرصد جبل الشيخ، لم تزل تخز بل وتضرب بهراوة ثقيلة رأس هذا الكيان الغاصب وذيل داعميه، في العلن وفي السر، السر الذي كشفه الحاضر وواقعه، وهو بالتأكيد ليس وليد يومه، بل إنه تم علفه وتسمينه منذ ذاك التاريخ 6/10/1973، وفي الساعة الثانية والربع منه، وبعد 6 سنوات من نشوة انتصار أصابت الصهاينة عام 1967، الكيان الصهيوني لم يخطر في باله ولو للحظة واحدة ربما، أن قائمة ستقوم للعرب بعد ما حل بهم في ما تمّ تسميته بـ “النكسة”، وفي الوقت الذي كان فيه قواد الصهاينة، يركنون إلى أمانهم الزائف الذي سوقوا له سابقا لدى شعبهم، بكونهم في أمان تام، لا يأتيه أي منغص أيا كان سببه، طالما أن “الجيش الذي لا يُقهر”، قادر على سحق دول بأكملها في أيام، وإثبات ذلك لهم بما انتهت إليه حرب الستة أيام كما تم تسميتها، جاءت السيدة فيروز بكامل رهافتها ورقتها، تعلن بصوت السماء الصافية، أن ثمة من لم تغب نواطيره عن كرومه وأراضيه، وها هو يقود حربا ستجعل فراش كل صهيوني من وقتها وحتى اليوم، مكتظا بالمسامير والشوك، فما فعلته تلك الحرب المباركة، ظل خنجرا غدارا وجرحا لا يندمل في جسد هذا الكيان وفي عقله أيضا، والشتات اليهودي الذي تمت لملمته من مختلف بلدان العالم، لإقامة دولة، ها هو يغادر الأراضي المُحتلة إلى حيث كان، وما يعنيه هذا من سقوط مدو لمفهوم الدولة المزعومة، قبل نقاش مشروعيتها؛ مشهد ساخن لم تبرد جمراته الراقدة تحت الرماد، شاهده قادة ذاك الكيان حتى في كوابيسهم، أرتال من اليهود المتجهين إلى المطارات للهروب والعودة حيث كانوا، ما يعني فشل المشروع البريطاني برمته.
انتهت الحرب، لكنها انتهت هناك، أي على الورق، أما واقع هذه الحرب فبقي متقدا وإن كان في مناح أخرى غير الحرب المباشرة، الحرب التي وجهت ضربة قاصمة لوجود هذا الكيان وليس لردعه، أخذت تبدل أثوابها، واللعب الذي كان مستترا لسنوات طوال تحت الطاولة، صار معلنا، وهذا ما أخبرتنا به الأيام، جيش البلاد لم يخلع بزة الحرب حتى وهو منتصر، فالدولة أخذت شكلها الطبيعي بعد هذه الحرب، بُنيت المؤسسات والجامعات والمدارس، الاقتصاد صار في أفضل أحواله، -لم يكن في ذمة بنك سورية المركزي قبل عام 2010 أي دين لأي جهة، في الوقت الذي ما من بلد فيه حتى الغنية منها، إلا وتعاني من هذا الضغط الثقيل-، نهضت البلاد على أقدام قوية، وصار يُحسب لها ألف حساب وحساب، هناك معامل تدور وسواعد تبني وأجيال وعت طبيعة الحرب التي يخوضها أباؤهم وسيخوضونها هم بدورهم، فالسرطان ما زال في الجسد، وهناك ما يُجمهر له في الخفاء، للانتقام.
الهزيمة المذلة التي خرج فيها جيش هذا الكيان، عار أمام العالم برمته، جعلته كالمستذئب المجروح، إنه في أشرس حالاته، لكنه يكظم غيظه، ولإدراكه أنه ليس ندا في الحرب، ولا حتى له خيالا يلوح في ميادينها، بدأ العمل لضرب الوطن وذلك بتدمير محيطه أو عزله، كما حصل مع الأردن باتفاقية كسرت أكتاف الأردنيين، ومع لبنان في محاولة احتلاله ومع العراق بتخطيط ممنهج لنسفه، وهذا ما حصل، لذا فالحرب التي نخوض حتى اللحظة، ما هي إلا فصل من فصول حكاية طويلة، لا تنتهي إلا بانتهاء الشر كله، والعدو الذي كان في الخارج، صار في الداخل، لم يتغير شيء في هذا الفصل من الحكاية، إلا الشعارات والأزياء!.
هناك من يعتبر أن أي حديث عن هذه الحرب المجيدة، هو “كليشيه”، دون أن يدري أن واقعيتها هي من حولتها لذلك، ليست واقعيتها فقط، بل طبيعتها وزمنها غير المنقطع أساسا، وربما تحويلها إلى “كليشيه” هو أول الخطوات التي عملت على محاولة ضرب قيمتها ماديا ورمزيا. نحن اليوم لسنا في ذكرى مجيدة نحتفل بمضي 46 عاما عليها، بل إننا في أتون الحرب نفسها، نحارب العدو نفسه، العدو الذي قام “كابوي” البيت الأبيض، بمنحه ما لا يحق له أن يمنحه، وها هي سواعد الأبناء، تفعل فعائل الآباء، والرواية طويلة، لم تنته بعد، فلنا كما قال الشاعر الفذ نزار قباني في تحفته الشهيرة “ترصيع بالذهب على سيف دمشق”: ولنا موعد على جبل الشيخ/ كم الثلج دافئ وحنون.
تمّام علي بركات