إرادة التحرير.. من تشرين إلى المقاومة
لم يكن هدف الكيان الصهيوني من عدوان 1967 هزيمة العرب عسكرياً بالضربة القاضية، واحتلال المزيد من أراضيهم فحسب، بل كان زرع عقولهم بفكرة أنهم محكومون بالهزيمة بحيث يفقدون إرادة القتال والتحرير، ولا يبقى أمامهم سوى طريق الاستسلام والقبول بالاحتلال.
وقد توهّم قادة العدو وقتها، وهم يرون كيف زعزعت الهزيمة ثقة العرب بأنفسهم، وأطاحت بأحلامهم وآمالهم التحررية والوحدوية، أنهم حققوا مبتغاهم، وأن العرب دخلوا في غيبوبة عسكرية يصعب عليهم الخروج منها.
من هنا شكّلت حرب تشرين مفاجأة صاعقة للصهاينة الذين عجزوا عن صدّ الهجوم السوري المصري الكاسح عليهم في مثل هذا اليوم من عام 1973، وكانوا على وشك تلقي هزيمة نكراء تودي بكيانهم المصطنع لولا تدخل أمريكا عسكرياً وسياسياً لمساعدتهم، بل ولقلب موازين الحرب لتتحوّل إلى غير مصلحة العرب، وتنتهي كما أرادت لها الدبلوماسية الأمريكية الخبيثة نهاية تخدم مصالح الكيان الصهيوني بعدما نجحت واشنطن وقتها في تدجين أنور السادات وتوجيهه الوجهة التي تريد.
على أن حرب تشرين بقيت بالرغم من ذلك كابوساً حقيقياً يقضّ مضاجع الصهاينة، ويشعرهم بالخوف من احتمال تكرارها، مما دفعهم بالاشتراك مع الحليف الأمريكي إلى التخلص نهائياً من هذا الاحتمال عبر اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت مصر، وهي من هي، من الصراع العربي الصهيوني، ونسفت كل إمكانية لشن العرب حرباً جديدة على غرار حرب تشرين، وفتحت الباب عريضاً أمام نهج التفاوض الاستسلامي الذي سيصبح هو الخيار السياسي الرسمي العربي، والذي لم يفشل فشلاً ذريعاً في استعادة الأراضي العربية المحتلة وحسب، بل مكّن العدو من تحقيق المزيد من الاحتلال والاستيطان والتهويد، وتحوّل هذا النهج، كما نشهده اليوم، إلى نهجٍ تحالفي وتطبيعي معلن…
نعم لقد استطاع الكيان الصهيوني أن يمنع تكرار حرب تشرين، لكنه لم يستطع أن يقضي على إرادة التحرير التي كانت وراء تلك الحرب والتي صنعت بقوتها المعجزة التشرينية التي أبهرت العدو، وأزالت القناع عن وجهه الحقيقي: وجه الكيان القابل للهزيمة، ففي ظل انخراط النظام الرسمي العربي بمعظمه في الخيار التفاوضي الاستسلامي، كان لابد لتلك الإرادة أن تجد حاملاً جديداً يحملها، ويجسّدها على أرض الواقع، فكانت المقاومة التي شكّلت رغم خصوصيتها كفاعل مجتمعي بالدرجة الأولى الوريث الشرعي للكفاح التحرري العربي المسلّح بمختلف تجلياته الشعبية والرسمية، ولاسيما حرب تشرين الإنجاز الأهم على هذا الصعيد في التاريخ العربي المعاصر.
ومع التأكيد على تلك الخصوصية التي مكّنت المقاومة من حمل مشروع التحرير في مواجهة النظام الرسمي المتخاذل، فإن مفهوم المقاومة يتسع ليشمل كل القوى في المنطقة التي تتخذ من محاربة الاحتلال الصهيوني والهيمنة الأمريكية خياراً استراتيجياً بما فيها بعض الدول العربية التي دعمت المقاومة، وشكّلت عمقها الاستراتيجي وفي مقدمتها سورية، وبما فيها أيضاً القوة الإقليمية الكبرى التي تتصدى للمشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة، وتدعم المقاومة وهي إيران، ذلك أن الحديث أصبح في الأعوام الأخيرة يدور عن منظومة أو حلف المقاومة الذي تتعاظم قوته، وتتوالى انتصاراته في سورية ولبنان والعراق وفلسطين واليمن في مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني وأدواته الإقليمية الرجعية…
وتبقى إرادة التحرير، كما عبّر عنها تشرين العظيم، وكما تجسّدها اليوم منظومة المقاومة، كلمة السر التي تصنع البطولات وتحقق الانتصارات على الأعداء، وتجعل من هدف تحرير الأرض العربية التي يحتلونها حتى آخر شبر منها هدفاً واقعياً قابلاً للتنفيذ رغم أنف خُدّام أمريكا و”إسرائيل” من أعراب الذل والخنوع.
محمد كنايسي