ثقافةصحيفة البعث

“خطة قدمكن”.. جبل الشيخ 2017

 

 

كان صوت فيروز يصدح في أرجاء المنزل، وكانت أم هايل العجوز التسعينية، تجلس في فناء المنزل، تحاول أن تخيط قميص حفيدها أحمد.
أشعة الشمس تزداد حدّة مع مرور الوقت، رفعت نظرها للأعلى فطالعتها أوراق العريشة الخضراء، تهتز مع نسمات الهواء، أعادت نظرها للأسفل وتابعت حياكة القميص، وهي تردّد مع فيروز، “لوفيك تحكي للحبايب شوبني.. ياطير”، لكن صوت مذيعة الراديو قطع عليها انسجامها مع فيروز، حينما أعلنت بداية البرنامج الصّباحي، المخصص هذا اليوم للحديث عن ذكرى حرب تشرين التحريرية.
قطعت أم هايل الخيط وتنهّدت بأسى: كم من السنوات مضت على رحيلك ياولدي. كانت تعلّق قميص حفيدها، وهي تستمع إلى المذياع، أصوات الأغاني الوطنية، إطلاق نار، دبابات، وطائرات، كل هذه الأصوات أعادتها خمساً وأربعين عاماً إلى الوراء. كان ابنها أحمد شاباً في العشرين من عمره حينما بدأت حرب تشرين التحريرية، كان مقاتلاً بطلاً بكلّ معنى الكلمة، وفي المرات القليلة التي كان يستطيع رؤية أمّه كان يحكي لها عن تقدّم الجيش العربي السوري وتدميره خطوط العدو في منطقة القنيطرة والجولان ويصف لها فرار الصهاينة أمام زحف قواتنا المسلحة الباسلة، وكانت أم هايل تذرف الدّموع فرحاً، مكلّلة ذلك بدعائها للجيش العربي السوري بالنصر المؤزر. وآخر شيء وصلها منه كانت رسالة صغيرة مازالت تحتفظ بها حتى اليوم، أخبرها فيها أنّ الدّبابة التي يقودها تعرّضت لصاروخ أدّى لتدميرها، لكنّه نجا من الموت بأعجوبة، وعاد ليقود دبابة أخرى، لكن لم يصلها منه أي رسالة بعدها تحكي لها عن بطولته وبسالته.
أحمد حفيدها، أخذ اسم عمّه، فبعد وفاة ابنها أحمد، أصرّت أم هايل أن يبقى اسمه مرافقاً لها مدى الحياة، وألا يُنسى أحمد، ولا تُنسى بطولته وشهادته، ولذلك سمّت حفيدها على اسم عمّه.
قطع عليها شرودها صوت فيروز يرتفع من الإذاعة “خطة قدمكن ع الأرض هدارة، أنتوا الأحبة وإلكن الصدارة”.. ذهبت أم هايل إلى خزانتها، وأخرجت منها رسالة ابنها أحمد الأخيرة، أعادت قراءتها مرات عديدة، بكت عليه وقبّلت خطّه، ثمّ أعادتها لمكانها. نامت في تلك الليلة وصورة ابنها أحمد لا تفارق خيالها، وصوته لا يغيب عن أذنها.
في صباح اليوم التالي استيقظت أم هايل على صوت زغاريد، تملاً الأرجاء، للحظة شعرت بالخوف، تذكّرت الزغرودة التي أطلقتها عند سماعها نبأ استشهاد ابنها أحمد، تسمّرت في مكانها، تحاول أن تفسّر الأصوات. أصوات قرعٍ على الباب، صوت الزّغاريد يقترب أكثر، ويعلو أكثر.
استشهد أحمد، حفيد أم هايل، أثناء مشاركته الجيش العربي السوري في تصديه للعصابات الإرهابية المسلحة في مزارع الأمل بالقنيطرة. زغردت أم هايل مرّة أخرى، زغرّدت وودّعت الشهيد، وغنّت له “انتوا الأحبة وإلكن الصدارة”.
أم هايل هي “صالحة الصالح” امرأة صلبة تجاوزت التسعين عاماً من قرية حرفا منطقة جبل الشيخ، أما قصة استشهاد ابنها وحفيدها، وتوارث الاسم، فهي حقيقية، من روايتها لإحدى وكالات الأنباء، التي ختمتها “الله ينصر سورية على كل خائن وغدار”، أحببنا أن نوردها لكم، كي لا يُنسى أحمد، ولا تُنسى والدته، التي علّمته حبّ الوطن، وقدّمت أغلى ما تملك “ابنها وحفيدها” في سبيل نصر سورية.

مادلين جليس