الخوف.. من النقصان!
حسن حميد
بكى الناقد العراقي المعروف ماجد السامرائي طويلاً، وأبكى من حوله، حين رحل الأديب جبرا إبراهيم جبرا (1919-1994)، وقد ظن الجميع أن السامرائي يبكى فقده للطود الثقافي والإبداعي الكبير، والأكاديمي الذي بات يشبه نهر دجلة في قوته، وامتداده، وعطائه، وما ضايفه حوله من ضفاف فيها البساتين الشاسعة لأشجار النخيل المتفردة في الحضور والعطاء، وفيها القرى التي تحيط بالنهر مثلما تحيط النجوم بالقمر، وفيها الأساطير والحكايات والقصائد والغناء الحزين والذكريات والشواهد على البناء والعمران؛ بل ظن الجميع أنه يبكي صداقتهما التي نيّفت على عقود من الزهو، والصدق، والجمال، والمحبة/الدائمة، وفيها تصادي روحين مبدعتين، واحدة تكتب، وأخرى تكتشف، وواحدة تبدع، وأخرى تجلو الإبداع ليصير المتواري منها قناديل من البهجة الساحرة.
وتمرّ الأيام، ويتعافى جرح الرحيل رويداً رويداً، حتى تصير قشرته إلهية فيها من الأسى والحَزن ما يشق الروح نصفين، نصفاً للوعة، ونصفاً للمواساة، ويحيط الأصدقاء بالسامرائي ليعرفوا أكثر عن جبرا إبراهيم جبرا، ابن بيت لحم، والقدس، ابن الثقافات العالمية التي استقاها من ينابيعها البكر التي لم تعكرها لوثة هنا أو لوثة هناك، وابن الإبداع الذي تجلّى روايةً، وقصة، وشعراً، ونقداً، وفناً تشكيلياً، وترجمة، وحضوراً داهشاً في أروقة الجامعات والمؤتمرات والملتقيات، أحاطوا به ليعرفوا أسرار الكتابة التي أوقدت نيران الأدب والإبداع في ذات جبرا سنوات نيّفت على نصف قرن من التعب الأدبي الجميل، فكان أشبه بالبساتين كثيرة الزينة، كثيرة الثمر، وقد كان ماجد السامرائي الحارس الأمين على أسرار جبرا الذي أخبره، وبهدوئه المعهود، كيف مشت روحه في كل هذه المسارب الإبداعية حتى روّها بالجميل بعد أن احتفى بها طويلاً عبر القراءات الطويلة، والمساهرات المضنية، والرؤى الكواشف! قال السامرائي لمن أحاط به من الأصدقاء، قلبي ممتلئ بأحاديث جبرا، ولا أستطيع الحديث عنه في ساعة أو يوم، لكن ما أستطيعه هو الوقوف عند قول من أقواله في كل مرة، وراحت الأقوال تبدو مثل طيور راهجة في رحابة السماء، قال لهم: قال لي كيف يقوى أهل العراق الآن على الكتابة والإبداع، وقد أبدعوا العالم وأوجدوه في أحيازه الثلاثة: الأرض، والسماء، وعالم الأموات، وكيف لهم أن يدوّنوا، يقصد كتّـاب اليوم، مكاتيبهم، ولديهم فذاذة التدوين وصفوته /ملحمة جلجامش/! وأين هو تهيبهم قبل أن يقولوا: ها نحن أصحاب نصوص تضاهي /الملحمة/ وأصحاب نقوش ومنحوتات تضاهي ما رصّعه الأجداد على الجدران، وما بنوه من عمران، وما أنسنوه من مفردات الطبيعة العواصي (كالأودية، والجبال، والأنهار، والزلازل، والطوفان) وما اختطوه من عادات، وتقاليد، وما جعلوه أعرافاً، وما أسموه بالتصورات! قال السامرائي: سألت الأستاذ ألهذا يتريث أهل الإبداع في العراق ويصبروا على نصوصهم! قال: بلى، لأنهم يحدقون في مرآة الحضارة ومضايفاتها تترى من بابل، وسومر، وأكاد، وآشور. قلت: وأنت يا أستاذ؟! قال: ندبت حظي الإبداعي حين جئت العراق لاجئاً، وجالست حزني، وناديت في وحدتي: أهذا مصيري؟ وكيف أكتب الآن؟ وأمامي الزقورات، والمنارات، والمدائن، والقصور، والأسوار، والأبراج، والأنهار وقد أسلست قيادها، والنخيل وقد تلهّى بخضرته وحلاوته وذؤاباته العالية، والقنوات التي تمرّ بالبيوت كالنسائم، والحدائق التي أحاطت بالبشر من كل الجهات كالأساور! لقد أخذتني حيرتي سنوات، فلم أجهر بالكتابة أو الرسم أمام أحد، وقد جئت إلى العراق كاتباً وفناناً، كنتُ أكتب وأرسم خفيةً في الليالي السود خوفاً من الناس والضوء، قال السامرائي: أخفت من التاريخ؟! قال جبرا: خفت من أسطورة النقد، وجمال المكتوب، وصفاء الرؤيا، والدهشة التي تماشي السطور والفنون في العراق مثلما يماشي الضوء النهارات الطوالع. قال السامرائي: وما الذي أنتجه خوفك؟! قال جبرا: أن لا أفتك نصاً من يدي إلا وفيه طعوم الخوف من النقصان!
Hasanhamid55@yahoo.com