عن المنهج القومي في القرآن الكريم
د. إبراهيم علوش
ربما ينزعج بعض المثقفين النخبويين من طرح قضايا دينية في سياق سياسي أو أيديولوجي، أما بالنسبة للمناضلين القوميين، الذين يخوضون معركة مواجهة التكفير والنزعات الطائفية في الأحياء الشعبية والقرى، فإن الإسلام أهم بكثير من أن يُترك لحركات التدين السياسي، التي طالما دأبت على توظيف تأويلها الملتوي للدين لكي “تكفّر” القوميين والوطنيين واليساريين، وهو ما يترك أثراً سلبياً لدى جزء من الجمهور إزاءهم، فالمعركة على وعي الشعب في مواجهة التكفير وحواضنه وامتداداته باتت في أحد أبعادها معركةً على تأويل الإسلام وتفسيره، وهي معركة لا يسع أي حريص أن يدير ظهره لها بذريعة “عدم الخلط بين الدين والسياسة”.
وبعيداً عن الكثير مما كُتب وقيل عن العلاقة الوطيدة بين العروبة والإسلام، فإن من يقرأ القرآن جيداً يجد أن نهجه كان منهجاً يركّز على الجماعة، لا الفرد، ويتجلى ذلك مثلاً من خلال استخدام “واو الجماعة” بكثافة، كما في “يا أيها الذين آمنوا..” في الأمر والنهي والتحذير، والتي تتكرر عشرات المرات (عُدّت تسعين مرة، وربما تكون أكثر).
كذلك نلاحظ في الآية التي وردت في سورة التوبة: “وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون..” (105)، أن الآية الكريمة لم تقل: قل اعمل (بالمفرد)! وأن من سيرى هذا العمل ليس الله وحده عز وجل، بل عامة المؤمنين أيضاً.
إذاً، المخاطَب هنا هو الجماعة، لا الفرد، فلا تجد في القرآن مثلاً نداءً من نوع: يا أيها الذي آمن، أو يا أيتها التي آمنت، بل تجدها دوماً بصيغة واو الجماعة، كذلك تجد “الذين آمنوا” تتكرر عشرات المرات، دوماً بصيغة إخبارية وإيجابية، ولا تجد: الذي آمن، أو التي آمنت، بالمفرد، لأن الجماعة تشمل الأفراد طبعاً، أما لو جاءت بصيغةٍ فردية، فإن الحس الجمعي يصبح مغيّباً، فيما تأخذ الدعوة طابعاً اجتماعياً، لا فردياً؛ والاستثناء طبعاً هو الحالات التي يكون فيها المخاطَب هو النبي العربي محمد (ص) أو غيره من الرسل والأنبياء.
غير أن مثل هذا الاستثناء لا ينحو منحىً فردياً، إنما يتخذ منحىً جمعياً أيضاً، وهو لا يتخذ أيَ منحىً جمعيٍ كيفما اتفق، إنما منحىً قومياً، كما في “إنما أنت منذرٌ ولكل قومٍ هاد” (الرعد، الآية 7)، “وإنه لذكرٌ لك ولقومك” (الزخرف، الآية 44)، بالإضافة لعدد من الآيات الأخرى التي تتوجه لقوم الرسول الأمين أو تتوجه للرسول، عليه الصلاة والسلام، لتحدثه عن قومه.
وفي الواقع، تتكرر كلمة “قوم” مئات المرات في القرآن الكريم (أحد المراجع يذكر أنها تكررت 384 مرة)، والقومية مصدر مشتق من قوم، والسياق العام لذكرها في القرآن هو الجماعة من الناس الذين تجمعهم صفة مشتركة ما، ليس بالمعنى الحديث لمفهوم القومية بالضرورة، ولكنها لا تستثني ذلك المعنى الحديث للجماعة القومية أيضاً، وهي ترد في القرآن بمعنىً سلبي أو إيجابي، بحسب السياق، لكنها تتعلق غالباً بالناس الذين يتوجه إليهم الرسل والأنبياء، أي قومهم، داعين أو هادين أو مؤنبين أو محذّرين.
فمن هم قوم الرسول محمد (ص) الذين توجه إليهم في البداية؟
نجد في سورة الشورى: “وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها…(7)”، وأم القرى طبعاً هي مكة، ومن حولها هم العرب، وقد سبق أن أوردت في مقالة “العروبة والعربية في القرآن الكريم” إحدى عشرة آية تتحدث عن عروبة القرآن، منها الآية الواردة آنفاً، ومع أن الإسلام عالمي الرسالة، فإن ما لا شك فيه أنه عربيٌ نزل في حاضنة عربية وتولى العرب حمل لوائه كرسالة للعالمين.
أما المفهوم الحديث للقومية، فيرد في سورة الحجرات: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليمٌ خبير” (13)؛ ولو فكّرنا بكلمة شعوب قليلاً، سنجد أنها تتسع بسهولة للمفهوم الحديث للقوميات، أي الجماعة من الناس الذين تجمعهم صفات اللغة والتاريخ والثقافة والأرض المشتركة.
ولو فكّرنا لماذا ذُكرت الشعوب قبل القبائل، مع أن التسلسل الطبيعي من الصغير للكبير يفترض أن يبدأ بالقبائل وينتهي بالشعوب، لا العكس، فهذه ليست صدفة، بل تعطي للشعوب درجةً أعلى من القبائل بتفضيلها أولاً، كما أنها تفصل الشعوب عن القبائل، لأن الشعب الذي يظل قبائل لا يرقى إلى درجة شعب، فذلك عائق أمام الاندماج القومي، ويمكن تفسير “قبائل” بعدة طرق، لا تقتصر على المعنى الحرفي للقبلية، بل تتعداها لأي حالة تشرذم على أساس طائفي أو عرقي أو غيره، ومن البديهي “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، في سياق الحديث عن الشعوب والقبائل، هي نداء ضد العنصرية وضد أي شكل من التعالي القائم على أساس صدفة الولادة في شعب أو قبيلة أو طائفة أو منطقة معينة، فهذا لا يؤخذ كموقف ضد حقيقة الوجود البشري على هذه الأرض على شكل قوميات، على العكس تماماً، إذ يقول القرآن: إن البشر هم شعوبٌ وقبائلُ كما هم ذكرٌ وأنثى، وهذا لا يتنافى مع حقيقة كونهم بشر ما عدا ذلك.
وقد وردت كلمة “الإنسان”، بالمجرد، عشرات المرات في القرآن الكريم (حوالي ستين مرة تقريباً)، غالباً في سياق سلبي: “إن الإنسان ليطغى”.. “خلق الإنسان ضعيفاً”.. “وكان الإنسان عجولاً”.. “وكان الإنسانُ أكثرَ شيءٍ جدلاً”.. إلخ، لكنْ كذلك وردت كلمة إنسان في مراتٍ شبه نادرة في سياقٍ إيجابي، كما في: “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم”.
لكن فئة “الإنسان”، والإنسانية مصدر مشتق منها، لا تجد دعوات للعمل واتخاذ موقف للانطلاق تحت لوائها، على غرار “يا قوم”، و”يا أيها الذين آمنوا”، بل تجد إحالات للإنسان لكي يفكر ويتأمل مثل: “فلينظر الإنسان ممّ خُلق” (سورة الطارق 5)، لكن فلننتبه إلى أن الحديث عن الإنسان، حتى هنا، يأتي كـ “هو”، أي بصفة الغائب، وليس الحديث موجهاً إليه بصفته مخاطباً على غرار “أنتم” في “يا أيها الذين آمنوا”، أو “يا قوم” مثلاً، والفرق بين الحديث عن “هو” و”أنتم” كبير جداً؛ والعبرة هي أن المخاطب هو الجماعة القومية، وأن المدعو للعمل في صفوف الجماعة القومية هو المؤمنون بالفكرة والرسالة، لا الإنسان بالمجرد، أو الفرد المنقطع عن أي انتماء قومي أو حضاري.
وحيث وردت في القرآن الكريم كلمة “فرد”، بضع مرات فحسب، فإنها جاءت بصيغة الضعف والوحدة، كما في سورة الأنبياء: “وزكريا إذ نادى ربه ربِّ لا تذرني فرداً..” (89)، وكما في سورة مريم: “وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً” (95).
.. وعليه نتبيّن بذرة المنهج القومي في القرآن الكريم بعيداً عن تأويلات التكفيريين؛ فالقرآن كمرجعية تسمو على أي تأويل فقهي هو أبعد ما يكون عن إدانة القومية أو العروبة، لا بل نراه يستند إلى عروبته وعروبة نبيه العربي كحقيقة دامغة على مصداقيته، كما نراه يستند في العمل إلى فكرة التوجه للقوم التي تشتق منها فكرة القومية، من دون استعلاء قومي أو قبلي أو طائفي، وليس أولئك القوم إلا العرب الذين بعث الله فيهم رسولاً منهم، فالقرآن منهجه قوميٌ وعروبيٌ، وإن كان رسالة لكل العالمين، وهو بهذا وثيقة قومية عربية نحن أجدر بها من أي تكفيري أو طائفي أو إرهابي يسعى لتوظيفها في خدمة مشاريع أعداء الأمة العربية والعالم الإسلامي والدول المستقلة حول العالم.