الأغنية السوريّة ولسان حالها
قد تكون الأغنية هي الفن الأكثر التصاقا بالإنسان، لأنها لا تحتاج تجهيزات لتُصنع ووسائط لتنتشر، مبدئيا ونظريا ممكن لمجموعة أصدقاء يسهرون أن يقوموا بالغناء، فالمكونات سهلة: كلمات جميلة ولحن، والأخير يمكن أن يخرج دمدمة بالصوت البشري، على افتراض أن الصوت البشري يستطيع أن يؤدي العلامات الموسيقية السبع، فحنجرة الإنسان هي أول آلة موسيقية في التاريخ، وعندما يغني هذا الصوت مع آلة موسيقية أو آلات، يمكن اعتباره نغما موسيقيا أُضيف عليها أو أُضيفت عليه، ذلك كإمكانية صناعة لهذا الفن.
لكن سهولته –صناعيا-، تتفق مع صعوبة إبداعية كبيرة، لأن الأغنية تجمع معا، كل من الشعر والموسيقى والأداء الصوتي، أي أن الأغنية الناجحة تحتاج لحنا جيدا ومميزا، وكلمات جيدة أيضا ومميزة، بالإضافة لأداء صوتي مقبول على الأقل، للأسف الفنان أذينة العلي لا يمتلك واحدة منها فيما يقدمه في معظم أغانيه، وخصوصا الأخيرة –يا شريرة-هذا في حال افترضنا أنها أغنية، ومعظم ما قبلها بطبيعة الحال.
في رائعته يا “شريرة” لا يمكن توصيف خلطة الأصوات الناجمة عند تشغيل الأغنية بأنها موسيقى، أو لحن له ملامحه، بل ما نسمعه هو، كما لو أن فني “دي –جي”، يرتجلها في لحظتها بين حشد من الراقصين، ويضيف عليها مقاطع صوتية للمطرب مثل “اتبع عينيك دوما يا شريرة”، وأيضا “لا تعرف عيني نوما يا شريرة”، ثم يتفضّل علينا بـ “قريبا جدا صار”، إلى أن يُكمل نعمه على المستمع بقوله “نار” بضع مرات متتالية.
نلاحظ أن أغنيه له سابقة كانت أكثر تماسكا، ربما أي أغنية أمام يا “شريرة” هي أكثر تماسكا، الفساتين الملونة كانت تحدد الموضوع وفرد للحالة النفسية التي يمرّ بها مع كل فستان، فالألوان الزهري حيره في أمره، أما الثوب البني فدفع به إلى الجنون كما يقسم، ثم تتعاقب الألوان مع تأثيراتها السيكولوجية العميقة على الفنان في الأغنية المذكورة.
نحن الذين ما زلنا نسمع فيروز، ما الذي يمكن أن نفعل حيال هذا؟ أجيبونا يا أهل الموسيقي ويا أصحاب الفن.
في الصباح وغيره من الأوقات نسمع: “وطني يا دهب الغيم الأزرق”، أو مثلا نسمع “بيتي أنا بيتك وما إلي حدا”، وفي نفس الوقت نحيا في زمن مع أشخاص يرتكبون أغاني كالمذكورة أعلاه! فيقول المرء لنفسه مواسيها: سأنزل من واسطة النقل التي تصدح في أجوائها تلك الأغنية، أو اخرج عما قليل من البقالية التي أيضا تُسمع فيها هذه النماذج من الأغاني الهابطة، والتي تفتت كل ما هو متماسك في النفس، لشدة رداءتها، ولكن المصيبة قد تدخل لتجد أحد الأولاد يستمع إليها، أو يراها عبر الشبكة العنكبوتية أو التلفاز.
المشكلة أن نُقادنا يترفعون عن تناول أو التصدي لهذه الأعمال المروعة، مع أنها تصل أكثر مما يصل أي فيلم أو مسرحية أو معرض تشكيلي، أي أن خطورتها أكثر من الفنون الأخرى، وهكذا تعمل الأغنية الهابطة وتنتشر وتتوغل دون أي رادع من ناقد أو وازع من صحفي، ويُشبّه لأصحابها أنهم فعلا ينتجون فنا، وأنهم يشتغلون على فنون عظيمة الأهمية والتأثير.
بل يمكن القول إن الأغنية الهابطة، هي الفن الذي يضبط معايير كل الفنون الأخرى، فإذا كانت قادرة على الوصول إلى المتلقي أكثر من أشكال الفن والأدب الأخرى، فإنه يمكن أن تسود حالة من الرداءة، تُعيد إنتاج الذائقة التي وقد أصبحت ذائقة رديئة، فإنها سوف تستهجن الجيد من الفنون الأخرى وترفضه.
إن بعض الأغاني تدفع بعض من يسمعها للخجل من إنسانيته، مثل أغنية رائجة أيضا تقول: “في منك ع فريز”، وغيرها مما يدفع للظن، بأن هناك جائحة جنون، ولوثة معدية أصابت جسم الأغنية المحلية والعربية، وهي أعاني تخرج كالفطر، في مواسم محددة، مثل بداية ومنتصف الصيف، وذلك لتناسب مواسم الأعراس والحفلات، حيث لا أحد يريد أن يهز رأسه طربا بل “وسطه” انفعالا وقفزا، ونطوا جنوا إذا.
لسان حال الأغنية المحلية يقول بما هو واقع، بكونها في أسوأ أحوالها فنحن تناولنا مثالا واحدا من أمثلة كثيرة منتشرة، ومن غير المعقول أن يبقى هذا الحال البائس لهذا الفن الخطير، في تدهور مستمر كما هو حاصل اليوم، ومن غير المقبول السكوت عليه، فثمة أجيال تُضرب ذائقتهم الفنية، وخراب الذائقة الفنية، هو وباء بما تعنيه الكلمة من معنى.
تمّام علي بركات