إدوارد سعيد.. الاستشراق علامة فارقة
لأنه قدم إرثاً من الأعمال التي تنوعت بين الكتب والمقالات التي عالجت قضايا شائكة في الأدب والنقد والعلاقة بين الشرق والغرب ولاسيما تناوله لحقل الاستشراق والدراسات ما بعد الاستعمارية، فقد كانت المترجمة ناهد تاج هاشم تدرك جيداً أن ما ستقدمه تحت عنوان “النقد في فكر إدوارد سعيد” في محاضرتها التي ألقتها في مكتبة الأسد بإدارة د.جمال شحيد لن تأتي بجديد، معترفة أن محاولة الكتابة عن مفكر كبير كسعيد شبيه بمحاولة الكتابة عن كاتب كشكسبير، حيث يشعر الدارس أنه لم يعد هناك من شيء لم يُدرَس، دون أن تغفل أن حجم ما كُتِب عنه باللغات المختلفة من الغزارة بمكان بحيث لا يمكن لأحد الادّعاء بالاطّلاع عليه والإحاطة به.
العالم والنص والناقد
تطرقت هاشم في البداية إلى مفهوم النقد نظريةً وممارسة فيما كتبه سعيد، وانطلقت من سؤال هل أسس سعيد لمنظور جديد في النقد حتى أمكننا أن نبحث في منظور النقد في فكره؟ وإن كان الحال كذلك فما هي ملامح ومعايير هذا المنظور النقدي؟ وما هي المفاهيم التي يُبنى عليها وماذا يميزه عن غيره من النقد بمدارسه المختلفة؟ من هنا كان لا بد لها من العودة إلى المنظور النقدي عند سعيد وأهم مفاهيم هذا المنظور المتمثلة بالنقد العلماني والنظرية المهاجرة والقراءة الطباقية مع التركيز بشكل خاص على كتبه “العالم والنص والناقد، والثقافة والإمبريالية” ومن ثم تركيزها على الشق التحليلي من خلال أعماله التي تصلح للنظر إليها كتجسيد عملي لمنظوره النقدي، مضيئة في هذا الصدد على كتابه “الاستشراق”، وقبل محاولتها الحديث عن مفهوم النقد عند سعيد قَدَّمت هاشم تساؤلات مثل ما هو النقد؟ هل هو البحث عن الإيجابيات والسلبيات في عمل ما؟ هل هو فرز الميزات والعيوب؟ هل هو رأينا الشخصي لذلك العمل؟ وهل يحتاج النقد إلى معرفة مختلفة عن تلك التي يمتلكها المختصون؟ هل هو ممارسة صعبة وتتطلب أن يقوم بها باحثون أكاديميون؟ مؤكدة أن الإجابة على هذه الأسئلة تحتاج إلى تحديد منطلق يؤسس عليه ومحاولة فهم معنى النقد الذي يستلزم قراءة ما كتبه سعيد بهذا الخصوص وهو الذي أشار في كتابه “العالم والنص والناقد” إلى أشكال رئيسية في النقد: العملي الذي نجده في مراجعة الكتب والصحافة الأدبية، والثاني هو التاريخ الأدبي أو الأكاديمي كدراسة الأدب الكلاسيكي وتاريخ الحضارة، والثالث هو التقويم والتأويل من زاوية أدبية، أما الشكل الرابع فهو النظرية الأدبية وهو مضمار جديد نسبياً لم يبلغ مرحلة النضج إلا في عقد السبعينيات.. والسؤال الذي طرحته هاشم هنا: إلى أي من هذه الأشكال الأربعة ينتمي النقد الذي مارسه سعيد؟ مبينة أن الإجابة على هذا التساؤل جاء على لسان سعيد حين قال إن مقالاته التي جمعها في كتاب “العالم والنص والناقد” تستمد وجودها من الأشكال الأربعة جميعها، وأن هذه الأشكال التي كانت مثار جدل ونقاش بين المنشغلين بها تناغمت لديه في ممارسة واحدة أطلق عليها “النقد العلماني” أو “النقد الدنيوي” والنقد الدنيوي بالنسبة له كما تشير هاشم يعني أن النصوص جزء من العالم الاجتماعي والحياة البشرية واللحظات التاريخية التي تقع فيها وتُفَسَّر فيها حيث لا يمكن عزل النص عن عالمه وشروط إنتاجه.
النظرية المهاجرة
وتبين هاشم أن إسهام سعيد في كتابه “العالم والنص والناقد” لا يتوقف على تقديم المفهوم العلماني للنقد وهو الذي قدم أيضاً فكرة النظرية المهاجرة في سعيه لتوضيح التغيرات التي تخضع لها النظرية مع الوقت والاستخدام، حيث يوضح سعيد أن النظرية المهاجرة تقوم على أن الأفكار والنظريات تُهاجر مهاجرة الناس والمدارس النقدية من شخص إلى شخص ومن حال إلى حال ومن عصر إلى عصر، وأن أطواراً متعددة تمر بها أية نظرية أو فكرة مهاجرة، فهناك أولاً موضع أصلي وهو يعني مجموعة من الظروف الأولية التي صادف أن وُلِدَت فيها الفكرة، وثانياً أن هناك مسافة تعترض سبيل الفكرة التي تنتقل من موضع سابق إلى زمان ومكان آخرَين ولذلك يجب عليها أن تجتازها، وثالثاً هناك مجموعة من الظروف وهي ظروف سمّاها سعيد ظروف التقبل أو ضروب المقاومة لكونها جزءاً من ظروف التقبّل، والطور الأخير حين تتعرض الفكرة التي أضحت الآن موضع الاحتواء أو الدمج بشكل كامل أو جزئي للتحوير من خلال الموقع الذي تحتله في زمان ومكان جديدين.
علامة فارقة
وتبين ناهد تاج هاشم في حديثها عن كتاب “الاستشراق” الصادر عام 1978 أنه تعبير واضح عن ممارسة النقد الدنيوي وخير نموذج عن دور النقد بين الأكاديمية والمجتمع، لذلك شكل علامة فارقة في حقل الدراسات الأكاديمية وقد ذهب بتأثيره أبعد من كونه عملاً تناول نصوصاً حول موضوع إشكالي كعلاقة الشرق بالغرب بل حرض على ردود ودراسات وفتح سيل الانتقادات، لأنه اختص في مجال الدراسات ما بعد الاستعمارية حين انطلق من دنيوية النصوص التي عالجها ووضعها في سياق الظروف التي أنتجتها، منوهة إلى أن الكتاب يتألف من مُقَدِّمة وثلاثة فصول طويلة، والكثير من أفكاره تظهر في المُقَدِّمة التي كتبها سعيد الذي أشار إلى أن الشرق ليس حقيقة خاملة من الطبيعة ولكنه كالغرب “من صنع الإنسان” وأن الاستشراق بالنسبة له ليس مجرد موضوع أو ميدان سياسي ينعكس بصورة سلبية في الثقافة والبحث والمؤسسات وليس مجموعة كبيرة منتشرة من النصوص نحو الشرق، وليس مُعَبِّراً ومُمَثِّلاً لمؤامرة غربية شنيعة لإبقاء العالم الشرقي حيث هو، بل هو توزيع للوعي الجغرافي إلى نصوص جمالية وبحثية واقتصادية واجتماعية وتاريخية، موضحة هاشم أن سعيد انطلق في كتاب “الاستشراق” من وعي نقدي بضرورة معالجة موضوع شائك كالاستشراق، وهذا الوعي النقدي برأيها كان مدفوعاً بتجارب سعيد الشخصية وهو وعي اتجاه ثقافة النسب والانتساب أي ثقافته القادمة منها كشرقي وعربي بما تمليه عليه هذه الثقافة من انتماء وثقافة الانتساب وهي الثقافة الغربية والمؤسسة الأكاديمية الغربية التي كتب من داخلها والتي ظل فيها غريباً، مؤكدة هاشم أن سعيد استطاع بإخضاع قراءة النصوص التي اختارها إلى القراءة التي تتحرر من النسب والانتساب وقد توزعت بوعي جغرا-سياسي واقتصادي ولذلك خرج سعيد -برأي هاشم- بتأويلات جديدة فيما يخص حقل الاستشراق ككل، دون أن يكون هدف الاستشراق القول أن النصوص الاستشراقية كلها كانت متواطئة في صنعة الشرق، بل كان يهدف إلى الإفصاح عما حملته من مدلولات لم يكن للقراءات النصية البحتة أن تُفصح عنها بعد أن هدم سعيد فيها الحدود الفاصلة بين السياسة والتاريخ والأدب، مشيرة هاشم إلى أن أهمية الكتاب تأتي من أنه مَهَّد الطريق لولادة نظرية ما بعد الاستعمارية في النقد الأدبي التي تنظر في قضايا الاستعمار والآخر والقوة والمقاومة، وقد استمدت مقوّماتها من نقد سعيد الدنيوي لحقل الاستشراق، وبهذا يكون نقده حرَّض على ولادة نظريات نقدية جديدة تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب وترسخ فكرة الحاجة لقراءة النص وفق عوامل إنتاجه الداخلية والخارجية.
أمينة عباس